رضوان السيد

شعر الجنرال ميشال عون بالإهانة الشديدة لأن بعض المتظاهرين سموهُ بين الطبقة السياسية الفاسدة! فهو يحمل منذ مدة بيده ومكنسته قضايا الفساد ومكافحته. بينما يتهمه الجمهور والخبراء الماليون والاقتصاديون بأنه مسؤولٌ عن أكبر ملفات الفساد في لبنان، ملف الكهرباء، الذي يتولى حقيبة وزارته وزراء من حزبه منذ سنواتٍ طويلة، وتشكّل خسائرهُ ثلث الدَين اللبناني العام (=25 مليار دولار أميركي). بيد أن الأظرف هو اتهامه للمتظاهرين بسرقة شعاراته بدلاً من ترحيبه بذلك، لأنه يمكن أن يدلَّ على أنّ «الشعب» معه في عدائه للمجلس النيابي والحكومة ودستور الطائف، وأنه مثله يطالب بإسقاط النظام والذهاب إلى الفيدرالية!
إنّ الذي أزعج عونًا في الحقيقة - وهو الذي لم يحسب له حزب الله حسابًا باعتباره ضبط المنظِّمين ووجَّه شعاراتهم – أنّ جمهور المتظاهرين (قالوا إنهم كانوا أكثر من مائة ألف) كان في معظمه في ساحة الشهداء، مسيحيًا يرفع شعارات وطنية عامة، ولا يشعر بالظلم أو الخوف لأنه مسيحي كما يوهم الجنرال عون كلَّ يوم (يقول إنه يريد استرداد حقوق المسيحيين من السُنّة بالتحديد!)، وهم يريدون فتح النظام وإصلاحه وليس تغييره لكي يتلاءم مع مصالح الجنرال. وهذا كله يعني أن النازلين إلى الشارع من المسيحيين ليسوا أتباع الجنرال عون، رغم اتفاقهم معه في أكثر نقاط برنامجه ظاهرًا. بالإضافة إلى أن بعضهم ولا شكَّ يمكن أن يكون من جمهور خصمه سمير جعجع، الذي بدا مرتاحًا وغير مُعادٍ للنظام، وداعيًا للإصلاح وبقاء الحكومة لحين انتخاب رئيس، وكلُّ ذلك وهو الرافض للاشتراك في الحكومة، رغم أنّ عونًا لم يخرج منها منذ العام 2008، وكان له في حكومة ميقاتي السابقة عشرة وزراء! الخلاصة: الجنرال عون رغم تطمينات الحزب له إلى أنه يسيطر على الموقف، شعر لأول مرةٍ منذ مدةٍ طويلةٍ أنّ المسيحيين ما عاد هو يمثل تطلعاتهم ربما بالقدر الذي لم يعد يمثلهم فيه خصمه سمير جعجع. وشعر أكثر أنّ الأمور والقرارات تغادر ساحته. بل إنه شعر إلى حدٍ ما أنّ الحزب يتخلَّى عنه، بدليل الحرية التي يتصرف بها نبيه بري إزاءه.


إنّ الظاهرة الأكثر لفتًا للانتباه، والتي ينبغي أن تخفّف من مخاوف الجنرال عون، هي التغيير الراديكالي في صورة التظاهرة وبرنامجه المطلبي بين الأسبوعين الأول والثاني. فالحشد الأكبر (السلمي) الذي اجتمع بساحة الشهداء، والذي كان متحدثوه قبل أسبوع لا يحسبون حسابًا في برنامجهم لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، ويريدون إسقاط الحكومة ومجلس النواب باعتبارهما غير شرعيين، بدوا مؤدَّبين جدًا وغير واقعيين في الوقت نفسه. لقد قالوا فقط في بيانهم الذي قرأه الشخص ذاته أنهم يريدون أن تكون الأولوية لانتخاب رئيس جديد، واستقالة وزير البيئة الذي فشل في حلّ مشكلة النفايات، ومحاسبة الذين اعتدوا على المتظاهرين السلميين ويقصدون الوزير نهاد المشنوق. أما الباقي فكلام عام ضد الفساد والفشل. إنما المهم وغير الواقعي أنهم أعطوا الحكومة مهلة 72 ساعة لحلّ المشكلات، أو يعودون للتجمهر والتظاهر.


إنّ الواضح أنّ الحزب والمسيحيين في الوقت نفسه دعسوا على رجل منظِّمي التظاهرة، كما نقول في العامية اللبنانية: المسيحيون (وهم جمهور المتظاهرين) باتجاه ذكر انتخاب الرئيس فهو ملفٌّ ساخنٌ للمسيحيين، قد لا يُهمُّ أو لا يدخل في وعي اليساريين القدامى والشبان المعولمين مسيحيين ومسلمين.

أما الحزب فقد طلب إليهم التخفيف عن مجلس النواب والحكومة، وممارسة انتقائية تُظهر أنّ المذنبين في الفساد والعنف السلطوي من الحكومة هم من السنة: محمد المشنوق (وزير البيئة، مسؤول عن النفايات)، ونهاد المشنوق (وزير الداخلية، مسؤول عن تصرفات قوى الأمن)، وبذلك يتوقف الكلام عن فساد بري وعون، وعن عنف حزب الله! وقد احتاط الحزب لنفسه بطريقةٍ أخرى أيضًا وهي اصطناع حركة جديدة اسمها: «بدْنا نحاسب»، وهم آيديولوجيون ويساريون قُدامى وجدد، وأشبه بسرايا المقاومة التي أنشأها الحزب في أوساط الطوائف الأخرى – ووضع في مقدمة هؤلاء الشبان الزعران الذين تناضلوا مع قوى الأمن عدة ساعات، وهذا كله في ساحة رياض الصلح. وهؤلاء كانت شعاراتهم أكثر راديكالية، وظلوا في الساحة حتى ساعات متأخرة، وبدوا كأنهم من جمهور «8 آذار» في الإكثار من الحديث عن المقاومة، وعن فساد الطبقة السياسية كالعادة!
ولنعد إلى الموضوع الأساسي، موضوع الانقسام. لولا تصريحات المنظِّمين والمتحدثين العشوائية، لكانت ظاهرة تجدد التظاهر غير الحزبي إيجابية، إذ بقيت فيها تلقائيات وجمعيات نسائية وناشطو مجتمع مدني. وهذا الجمهور غير الحزبي ما نزل للشارع منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وهناك أمرٌ ثالثٌ إيجابي وهو أنّ الشبان والكهول هؤلاء مسيحيين ومسلمين، ما بدوا متوترين ولا خائفين لا من «داعش» ولا من هضم حقوقهم كما يقول الجنرال عون كل الوقت، كما أنهم لا يريدون الهجرة ومغادرة لبنان!
لقد قدمتُ بهذا كلِّه لأقول إن الحراك الذي أثار وسائل الإعلام بطرائق غير طبيعية لن يتغيّر كثيرًا أو قليلاً. هذا أمرٌ لا علاقة له بأعداد المتظاهرين ولا بقدراتهم التنظيمية، ولا بواقعية أهدافهم. بل له علاقةٌ بواقع علاقات القوة القائم على الساحة تحت ضغط سطوة سلاح الحزب ووهجه منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005. فقد أراد أن يخلُفَ السوريين في لبنان، وأن يمثّل مصالح إيران في العالم العربي أيضًا. والمهمة الثانية، فرضت عليه أعباءً اضطرته للضغط على معارضيه من اللبنانيين كلَّ الوقت بالسلاح والاغتيال والاستعراضات العسكرية والانقلابات السياسية، إلى أن حدثت الثورة السورية عام 2011 فتغير كل شيء، وصار الحزب أكثر تحوطًا وتشددًا تجاه كل الملفات المتصلة اتصالاً وثيقًا بالسلطة التنفيذية والمال والإعلام والجيش والسياسة الخارجية. وعندما بدا بشار الأسد مرتاحًا نسبيًا مطالع العام 2014 (وبعد اغتيال وسام الحسن ومحمد شطح) عرض على المستقبل حكومة شراكة، وجدها ملائمة أيضًا لوصول عون لرئاسة الجمهورية.


وبعد هذه المدة كلِّها فإنّ عونًا لم يصل لرئاسة الجمهورية، وانعقاد الاتفاق النووي، جعل إسرائيل أكثر توترًا وإغارةً على خطوط الإمداد بين لبنان وسوريا. واليأس من مستقبل بشار الأسد جعل الحزب يصر على إخلاء القلمون والزبداني من سكّانهما السنة، وإحلال شيعة محلهم، في حال حصول انهيار في سوريا والاضطرار للانكفاء إلى لبنان!
كل ذلك يجعل الحزب يتشبث ظاهرًا وربما حقيقةً بحلفائه. ويفكر في الوقت نفسه كيف «يهادن» خصومه، مع أنّ إيران تحت وطأة ضيقها من السعودية، يمكن أن تكلفه بمهمات جديدة. لبنان باقٍ على سطح الصفيح الساخن، والسخونة هي في مناطق النفوذ الإيرانية، وفيها لبنان!