غسان الإمام

نكاية بالحزن، سأكتب عن الفرح، فيما القلب يغالب الأسى على الفاجعة في المشاعر المقدسة. لكني مطمئن. فالحسم والحزم من صفات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي لا شك قد تأثر. وسيتخذ الإجراءات اللازمة لتنظيم أداء المناسك، وهو الإنسان الذي يرعى شخصيًا عشرات المؤسسات الخيرية والاجتماعية، بخدماتها الجلى للمحتاجين إليها، من أطفال. ونساء. وشيوخ. ومرضى. وأيتام. ومعاقين.
العيد فرح وبهجة. وتحرر وانطلاق لأيام قليلة من هموم الحياة اليومية. هكذا عرفت العيد في مدينتي دمشق التي لا يعرفها أهلها بهذا الاسم. فهي عندهم دائمًا «الشام». «رحنا وجينا ع الشام». وعندما سألوا صديقي محمد الماغوط لماذا أطلق اسم «شام» على ابنته، رد «وهل أسميها بلغاريا؟!».


في العيد كان أهل دوما المدينة البطلة الشهيدة ينزلون إلى الشام بقنابيزهم القروية الزاهية. هؤلاء هم آباء. وأجداد الشباب الصامدين الذين يدمر نظام بشار مدينتهم التي بنوها من إسمنت وحجر، بدلاً من التبن والطين، بعدما استحال عليه اقتحامها.


وأذكر أن دوما قبل أن تلتصق بالعاصمة، وبفعل النمو السكاني والعمراني، فقد ارتبطت بها بقطار «الترامواي» الذي أنشأه الفرنسيون من عربتين، في رحلة كانت تظللها غابة الأشجار المثمرة.
وعرفت من أبناء دوما الصديق عبد الهادي البكار أشهر مذيعي إذاعة دمشق الذي كان يتولى تقديم جمال عبد الناصر إلى الجمهور، في كل زيارة يقوم بها إلى «الشام». ولجأ عبد الهادي الكاتب والرسام إلى القاهرة، بعد غياب الوحدة المصرية - السورية (1961).


وكان عالم الذرة النووية عبد الرزاق قدورة من «سكان» ترام دوما. فقد كان يلجأ إلى الدراسة فيه، عندما يطفئ أبوه ضابط الشرطة المتقاعد النور في البيت، في التاسعة ليلاً، توفيرًا لمرتبه الصغير. وعبد الرزاق الذي غدا عميدًا لجامعة دمشق، هو شقيق للمحامي نذير. ولعبد القادر رئيس مجلس الشعب الذي عدل الدستور في ربع ساعة، بعدما رأى زميله رئيس الحكومة محمود الزعبي «ينتحر» برصاصتين في الرأس، لاعتراضه على إجلاس (الولد) بشار على سدة الرئاسة (2000). وآل قدورة من الأسر الليبية التي لجأت إلى سوريا، فرارًا من الاستعمار الإيطالي.


وأهل الشام أناس جادون. لكن بينهم ظرفاء. والنكتة في بلاد الشام من نصيب أهل حمص. فهي منهم وعليهم. وكان من ظرفاء دمشق أبو درويش سويد شخصية الكاريكاتير، في صحيفة «المضحك المبكي» الأسبوعية الساخرة. وسعيد الجزائري الذي خرّج أجيالاً من الإذاعيين. وكان يرأس تحرير «النقاد» الأسبوعية التي قدمت أبرز كتّاب القصة والأدب.


وكان عباس الحامض من ظرفاء الصحافة. وكان يصافحك من دون أن تعثر على الإصبع السادسة في كل من يديه. خرج عباس يومًا غاضبًا من مكتب صبري العسلي رئيس الحكومة. فالتقى على سلم سراي الحكومة أحد وزرائه. فسأله: «أين كنت؟»، رد عباس رحمه الله: «كنت عند ستالين». وكان أبو شجاع السياسي الليبرالي اليميني يترأس حكومة أبرز وزرائها النافذين من اليساريين والاشتراكيين البعثيين.


كانت المقاهي السياسية أندية حوار وثرثرة للساسة. والمثقفين. والعسكر المتقاعدين. وكان الضابطان المسرحان حافظ الأسد وصلاح جديد من رواد مقهى «الهافانا» في عهد الانفصال بين سوريا ومصر، فيما كان وزير الدفاع رشاد برمدا يجلس في مقهى «البرازيل» المقابل على الرصيف الآخر. وعندما صار حافظ الأسد رئيسًا حال دون تحويل «الهافانا» إلى متجر، تخليدًا لذكرى جلوسه فيها أيام الحرمان.


أما حسني الزعيم فكان من رواد مقهى على ضفة بردى. ويحاضر الجالسين معه عن الانقلاب الذي سوف يقوم به على الرئيس شكري القوتلي. ولم يكن القوتلي يملك جهاز مخابرات حديثًا يستطيع أن ينقل إليه تفاصيل «مؤامرة» الزعيم. ونقل الرئيس الطيب الزعيم من مدير شرطة في دير الزور، إلى منصب رئيس الأركان. فقاد رئيس الأركان الجديد أول انقلاب على الديمقراطية السورية الوليدة (1949).


عشية العيد، كانت أم كلثوم تصدح بأغنية «يا ليلة العيد آنِستينا» من أجهزة الراديو عند باعة الخضر في الأسواق والأحياء الشعبية الغاصة بالرواد. ولم يكن «سوق التنابل» قد نشأ بعد، ليريح المرأة الشامية من البقاء طويلاً في المطبخ. وقد وجدت فيه كل ما تشتهي جاهزًا للطبخ. وفي المقدمة الكوسا المحفور.


أمضي في هذه الذكريات المتناثرة عفو الخاطر. لعله الحنين في العيد والغربة إلى وطن يستبد بإنسان في المنفى. كبرت وعملت في صحف بيروت، عندما بات المارشال أبو عبده أمين الحافظ (رئيس الدولة) خطرًا على الحياة والعمل في صحف دمشق. وبيروت مدينة لا تطفئ الأنوار. فهي لا تنام حتى في الحرب الأهلية.


وجئت إلى باريس من بيروت في منتصف السبعينات، في إجازة قصيرة من قنابل الهاون. كنت بحاجة إلى النوم. وباريس تنام. تطفئ النور. ويبقى حي الشانزليزيه ساهرًا مع 85 مليون سائح عربي وأجنبي. امتدت إجازة الشهر، فطالت مع الحرب اللبنانية 15 عامًا. كانت العودة إلى بيروت حسن نصر الله مستحيلة، بعد حرب الجنرال ميشال عون مع حكيم القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع. فاستقبلني بشار في فندقه بباريس. وطالبني بالعودة إلى دمشق. فسألته عن الديمقراطية متى تعود؟ أجاب عندما يتدرب السوريون على الحرية.


دمشق أيضًا تطفئ الأنوار في العيد عن أحيائها الشعبية. وما زال بشار منهمكًا في تدريب «الشوام» على الديمقراطية والحرية. لم أعد إلى دمشق. فباريس لم تسلبني يومًا حريتي في أن أكتب. وأقول. وربما يضمني ثراها يومًا.


«يا ظلام السجن خَيِّمْ.. إننا نهوى الظلاما». كان الصحافي السوري نجيب الريس سجين الانتداب في معتقل مظلم، مع نخبة ساسة النضال ضد الانتداب. وكان كبيرهم فارس الخوري يسليهم بتدريبهم على لعبة «البريدج». ثم يعلمهم، كلما أطلق سراحهم، كيف يكون أدب النضال من أجل الحرية والديمقراطية. واحترام القانون. ثم يفلسف المعرفة. فيشارك جهابذة التشريع في الأمم المتحدة بنيويورك، في وضع ميثاق حقوق الإنسان.


تألمت عندما كتب الشيخ علي الطنطاوي يومًا في هذه الصحيفة أنه يحترم فارس الخوري. لكن لم يصافحه. واحترمت أنا فارس الخوري. فقد كان رئيسًا لحكومة الاستقلال يوم جلت عن سوريا ولبنان جيوش الانتداب. ثم رأيته يغادر فراش المرض، بكل وقار شيخوخته، لتشكيل الحكومة ثانية بعد عشر سنوات. وليتبرع للمسلمين بأرض يملكها، لبناء مسجد عليها. وعندما استقال عاد إلى سرير المرض ليموت في صمت. فقد رفضت صحف الأسد و«البعث» ملء قصاصة ورق، بتعريف الجيل السوري الجديد بفارس الخوري فيلسوف المعرفة. والثقافة. والأدب. والقانون.


جلس فارس الخوري يومًا في مقعد رئيس مجلس النواب. فأدهشت خبرته القانونية بالدساتير والقوانين الخبراء والسوريين. وأود أن أكشف سرًا يذهلهم. فأقول إن الرجل الكبير كان رجل معرفة. فلم يدخل فارس الخوري في حياته جامعة لينال شهادة!