ليس هناك شيء يرهق فكره وجسده في هذه الفترة من العمر مثل ما يرهقه ليل الخريف إذا جاء يدق بابه عند المساء، فيتخيل أنه قد أتى به الدوران لزيارته؛ كي يتقاسم معه أريكته المخملية، ويسامره في نغم حتى يبلغ الفجر محله، ثم يتركه على أريكته هزيلاً، ناعساً، تنتابه نوبات الحزن والحسرة لعجزه عن القيام في قادم الصباح الجديد بأنشطته المعتادة وطقوسه الصباحية في مقطورة مترو لندن، فاعتقاده الذهاب متأخراً لركوب القطار يعني أنه قد تخلف عنه ولم يفُته، وليس كما يقال "فاتك القطار"؛ لذلك لا يحبذ قدوم الليل في فصل الخريف، فهو ضيف غير مرغوب به، قاطعاً على نفسه فكرة أن يتذوق طعم مرارة هذا الليل ولو لمرة واحدة، بل يتمنى عليه أن يرحل بعيداً، ويحل ضيفاً على من اختلفوا معه في الرأي والفكر.

محمد العمري

ورغم أنه يحمل في تضاريس وجهه كهولة اللورد الإنجليزي الأنيق ذي الإطلالة الوردية المتجددة في ديناميكية، فإنه يعجز في الوقت نفسه عن مقاومة البوهيمية التي تشيخ في أعماقه، وكثيراً ما يناكفها، لكن الحياة قد يراها قد استقامت له بعد ترويضها، فجعلت منه قامة اجتماعية وإعلامية يحتفي بها الآخرون في المحافل، وتقدم له فيها الجوائز التقديرية والهدايا المالية، نظير إسهاماته وإبداعاته الصحفية.

إنه بحق يستحق أن يكون عراباً للصحافة السعودية الحديثة رغم بعده الجغرافي عنها، لكنه استطاع استغلال الفضاء المفتوح في التواصل والمساهمة في دفع الحركة الصحفية في بلده للأمام؛ ليضع عليها بعد ذلك مؤثرات البصمة الضوئية الخاصة به، ولأنه الصحفي الأكثر تجدداً وجاذبية في حواراته الجريئة مع القيادات السياسية في الوطن العربي، فقد حظي بخصوصية المعاملة؛ ليقترب أكثر ويتجاذب الحوار الصحفي مع الملوك والأمراء العرب، ذلك هو الصحفي المهاجر "عثمان العمير"، رئيس تحرير صحيفة الشرق الأوسط السابق، الذي يستمد سر بهجته وسعادته من خلال اتباعه لوصفة الطبيب الروسي تشيكوف في قوله: "حين لا تحب المكان استبدله، حين يؤذيك الأشخاص غادرهم، حين تمل ابتكر فكرة جديدة، وحين تحبط اقرأ بشغف، المهم ألا تقف متفرجاً".

وكما أنها ما زالت هي قناعاته ثابتة، فإن دقات قلبه فيها نبضات مضافة من الأمل في أن يتمكن علماء الأرض من اكتشاف إكسير الحياة الدائم له وللبشرية حتى ينعم بحياة أبدية، يتنقل فيها بين أحضان معشوقته "المغرب"، ويكون أكثر قرباً من مصدر سعادته في العاصمة البريطانية "لندن"، التي يغشاه فيها ليل طويل، كل ما فيه لا يذكره بشيء عن ماضيه في باديته النجدية، ولا عن عاداتها البدوية، بل لا يذهب أن يحن لها يوماً ما حتى لا تأخذ منه فكرة الحنين لذة حلاوة الروح التي وجدها في الثقافة الغربية ورموزها، ومجتمعاتها المفتوحة، فانغمست جوارحه في برودة نهر التايمز، ونسي أن له حضناً دافئاً في وطنه لن يتخلى عنه أو ينساه.

كانت ولا تزال شخصية العمير المثيرة في تفاصيلها وعناوينها تعد مصدراً مزعجاً للكثيرين، وغالباً ما يثير مع توأمه عبد الرحمن الراشد، مدير قناة العربية السابق، الكثير من القضايا والمسائل الجدلية، ويخوضان المواجهة معاً ضد خصوم الليبرالية داخل المجتمع السعودي المحافظ، فهما يرتبطان روحياً وعقائدياً، ويتوافقان إلى حد كبير في الفكر والرأي، إضافة للصداقة العميقة والزمالة المستمرة بينهما في الإعلام والأعمال، توأمتهما هذه تقترب شيئاً من التوأمة الصحفية المصرية للأخوين علي ومصطفى أمين اللذين أضافا للذاكرة التاريخية المصرية والعربية مفهوماً جديداً عن الصحافة والعمل فيها، وكذلك نموذج الأخوين هشام ومحمد علي حافظ مؤسسي المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق، وهو ما قد ينطبق إلى حد ما على تجربة العمير والراشد في النسخة السعودية ذات الطبعة اللندنية.

لقد عاصر العمير في مسيرته الصحفية الطويلة جيلاً من صفوة الكتّاب والصحفيين العرب، وكذلك أسماء رائدة في الصحافة السعودية ساعدته في امتلاك مخزون معرفي كبير، وتجربة مهنية ثرية ومميزة أهّلته لدخول معترك الحياة المهنية والقيادية مع كوكبة من زملائه، وأقرانه رؤساء التحرير الذين تواروا بعد ذلك في صمت، واحتجبوا عن الأضواء؛ ليظل نجمه يلمع وحيداً، براقاً في الفضاء يتعايش مع المتغيرات الجديدة للإعلام، ويضخ من فكره ما يجعله موجوداً وحياً، فأسس في عام 2001 أول صحيفة عربية إلكترونية "إيلاف" التي طالما كان يراهن عليها منذ انطلاقتها، وتنبأ وقتها بنهاية الصحافة الورقية، وهو ما بدا جلياً وواقعاً في وقتنا الحاضر.

في وطنه لا يزال الحالم يظنه قد مضى ملهماً في مهنة الصحافة، فيما الناقم منه يمقته ويراه مجرد ملهيّ، ومتمرد الشخصية، لكنه بين هذا وذاك هو لا يستشعر بما قد ذهب إليه كل منهما؛ لأنه يظن وثبته الكبرى قد استقرت به فوق قمة الهرم، وحقق ما كان يصبو إليه من شهرة، وقوة مال، وعلاقات شخصية مع كبار رجال الدولة اختصرت له الكثير من العناء للوصول لأهدافه في عالم المال والأعمال، ففي قرارة نفسه يؤمن بالإنسان الذكي الذي يجب أن يكون وصولياً، فالفطرة السوية لديه تحمل الصفة الوصولية إذا ما كان المرء يريد أن يقتنص الفرصة التي أتت إليه دون تردد، وكأني به يقول ليس عيباً أن تولد فقيراً، بل المزعج أن تموت فقيراً، ما يعتبره عثمان العمير المنطق بعينه، لا يمكن أن يمرر ويكون المنطق المقبول لدى الكثير من العقول.