حازم صاغية

 سيُبذل جهد كبير في تفسير ما حصل، لا سيّما وصف الحجارة التي هُندست بها العمارة، أي «تضحية» سعد الحريري و «نصر «حزب الله». ومثلما سمعنا من الحريري خطاباً عن «التضحية» مُثقلاً بالهواء، قد نسمع غداً خطاباً من نصرالله عن «الانتصار» مُثقلاً بالحديد. ولسوف يُبذل في المرحلة المقبلة جهد أكبر في تنظيم العلاقات بين الطوائف من خلال رموزها، وفي صياغة التوازنات الجديدة وحدودها، وسيكثر خارج الغرف، وخصوصاً داخلها، التكهّن في خصوص التعويضات: كيف ستُكافَأ «التضحية» وكيف سيُكرّس «النصر»، فيما سيتدبّر أمرَهم أولئك الذين لا موقع لهم حتّى الآن في الصيغ العتيدة الناشئة.

وكائناً ما كان الحال، يُرجّح، إذا ما انتُخب ميشال عون رئيساً للجمهوريّة اللبنانيّة، أن يكون الضحايا الجديّون اثنين، وأن يضاعف معاناتَهما العجزُ عن تحقيق الآمال المنتفخة المعلّقة على «ملء الشغور الرئاسيّ» بما يزيد الحاجة إلى أكباش المحارق.

أمّا الضحيّة الأولى فيُرجّح أن يكونها اللاجئون السوريّون الذين تواجههم بقية الطوائف إمّا بالعداء أو بالتنصّل. فهؤلاء مكسر عصا سهل، وهم ضعفاء بكلّ المعاني، ومن خلال تطويعهم يمكن الإيحاء باستعادة «هيبة الدولة» و»القانون والنظام» و»عمل المؤسّسات». وقد يتّفق الجميع ضدّ هذا «الغريب» مثلما اتّفقوا بُعيد اتّفاق الطائف ضدّ «الغريب» الفلسطينيّ. وما دام أنّ «الغرباء» أصل اللعنة اللبنانيّة، كما تقول الفصاحة الشوفينيّة، أمكن للإجراءات الأكثر قمعيّة بحقّ السوريّين أن توفّر الخلاص المرجوّ. أمّا «تحييد لبنان عن الحرب السوريّة» فلا يبقى منه سوى البطش بالسوريّين في لبنان ما دام أنّ إغلاق الحدود أمام المسلّحين اللبنانيّين الذين يتدفّقون على سوريّة مستحيل.

وغنيّ عن القول إنّ العونيّة، التي ستُترك لها حريّة الحركة في مسألة كهذه لا تهمّ بقية الطوائف، تملك كلّ المواصفات التي تجعلها «ترامبيّة» لبنان. وفي وسع من يشكّك أن يراجع أرشيف الصهر، الوزير جبران باسيل، الذي لا بدّ أن يكون النجم الصاعد في عهد عمّه.

لكنْ إذا كان اللاجئون السوريّون، الذين يقعون تعريفاً خارج الطوائف اللبنانيّة، هم الضحيّة الأولى، فإنّ الضحيّة الثانية هم الأفراد والمجموعات الذين يوحون بعالم ما بعد طائفيّ أو يرمزون إليه. فهؤلاء الذين طالبوا بأشكال من التمثيل السياسيّ غير طائفيّة، وبحقوق النساء وحرّيّات تعبيريّة ونقديّة وإعلاميّة أوسع، ومثلهم الذين دافعوا عن العمالة الأجنبيّة والمثليّة الجنسيّة والتجرّؤ على مقدّسات خشبيّة، وانضووا في تنظيمات المجتمع المدنيّ الضعيف وفي روابطه الناشئة، هم الذين يُرجّح أن يكونوا مكسر العصا الثاني. فالتمتّع بحرّيّة بات يتيحها الإعلام الاجتماعيّ، والمطالبة بتشريع يواكب المستجدّات المجتمعيّة، مرشّحان لأن يُدفعا إلى دائرة المحرّم.

وكحال السوريّين، تَترك الطوائف للعونيّة حرّيّة التعاطي مع هذه الفئة التي يشكّل استضعافُها محلّ تقاطع بين الرجعيّات الطائفيّة جميعاً. وقد ترتفع عالياً الحِكَم السقيمة عن طاعة الوالدين وتماسك العائلة وأخلاقنا الضاربة في تقاليدنا وسوى ذلك من ترّهات. وقد تعلو الخطابة الظافرة، يتنافس فيها خطباء الطوائف وإنشائيّوها الأجلاّء، كما تتنافس الاستشهادات المفوّهة بمراجعـ «نا» وأسلافـ «نا» في الأديان والمذاهب ممّن كانوا دائماً متّفقين، وكان أكثر ما اتّفقوا حوله تمكين الرقابات الدينيّة وتعزيز الرقابة الأمنيّة بها. وقد يتفنّن المعلّقون في التكهّن بالمواقف المحتملة لبرّي وجنبلاط وفرنجيّة، فضلاً عن الحريري ونصرالله وجعجع والآخرين...

لكنّ تجارب الماضي، معطوفة على أدمغة السياسيّين وأخلاقهم، لا تسمح بافتراض مستقبل أفضل... حتّى لو تمّ «ملء الشغور الرئاسيّ».