نهلة الشهال

من نصدق؟ آخر الدراسات التي أثارت جدلاً كبيراً، قبل أيام، تتعلق بالكوليستيرول وبالأدوية والأغذية المناسبة لعلاجه: لا ارتفاع الكوليستيرول لدى الأصحاء أمر خطير، ولا دلالة على أثر مفيد لأدويته المتناوَلة للوقاية في خفض الأخطار، بل هي سمّية ومضرة تسبب أمراضا أخرى وهدراً مالياً هائلاً (يقول مرجع علمي فرنسي إن الضمان الصحي يدفع 300 مليون يورو سنوياً بلا طائل)، ولا يوجد نوعان منه حميد وسيء، ولا معنى لأجيال الأدوية الجديدة التي يروَّج لها والتي «ظهرت» لتحفيز الاستهلاك، وبالأخص حين فقدت الأدوية القديمة حقوقها الاحتكارية وصار تصنيعها حراً.

أدوية الكوليستيرول وعلى رأسها «ستاتين» (بتسميات تجارية مختلفة) يتناولها يومياً 200 مليون إنسان، وتؤمن مداخيل مالية بمليارات عدة من الدولارات. لكن الأبحاث تلك تستدرك للقول: هذه الأدوية مفيدة في حالات بعينها وليس كما توصف اليوم. نشرت صحف كبرى ملخصات عن الدراسات الجديدة ومقابلات مع علماء، وعرضت قناة «أرتي» الألمانية/الفرنسية تحقيقاً عن الموضوع بعنوان «الكوليستيرول، الخديعة الكبرى»: مرعب! وفي التحقيق مثلاً رواية عن كيف جرى التركيز على الكوليستيرول لتفسير الذبحة القلبية لأيزنهاور بعيد انتهاء الحرب العالمية الثانية (وهو كان أحد نجومها)، والتجاهل المتعمد لتدخينه علبتي سجائر باليوم ولابتعاده عن الحركة.

النقاش قديم، عمره عقد على الأقل، ويحمل آراء متناقضة. وهو يتعلق بالمحاولات العلمية لحصر تعريفات الداء ومدى خطورته، أي بصلته بانسدادات الشرايين المسببة للذبحات القلبية والجلطات على أنواعها، وهو المرض الأكثر قتلاً في العالم حالياً (لو تركنا الجوع، وهو ليس «مرضاً»!).

الناقدون يتهمون فئتين: مختبرات ومعامل الأدوية الكبرى من جهة، والصناعة الغذائية من جهة أخرى. الأولى لأنها تمول الأبحاث العلمية والجامعية، وهذا متصاعد منذ طغت النيوليبرالية واستقالت الحكومات من المهمة وطلبت من المختبرات ومراكز الأبحاث العامة «تدبر أمرها»، فبحثت عن شراكات نسجتها بالضرورة مع من يمتلك المال، أي الصناعات الدوائية. ومع أن هذه تمتلك مختبراتها ومراكز أبحاثها الخاصة، فإنها تحتاج إلى شهادة تلك الرسمية و»المستقلة»، كما تُغرِق الإعلام بتقاريرها الجذابة ومؤتمراتها العالمية الفخمة، وتشتري كذلك السياسيين... وهذه شبكة أخطبوطية من المصالح المتداخلة.

والفئة الثانية هي الصناعات الغذائية العملاقة، وهي شريك عملي في هذا العالم تحديداً، تروّج لدهون «اصطناعية» ولأغذية «مخففة» اكتسحت الأسواق، ويصفها الأطباء ويقطّبون جبينهم حين يعلن المرء أنه لا يريد التخلي عن السمن البلدي أو زيت الزيتون. وهؤلاء قد لا يكونون شركاء في الجريمة وإنما هكذا هُيّئوا في دراساتهم، وهم غافلون كمثل المواطن العادي الذي يتنزه في أروقة السوبرماركت، ويتلقى عبر التلفزيون معلومات منمقة ودعايات جذابة... ما لا يمنع أن يخضع أطباء ومستشفيات لضغط العلاقات العامة التي باتت «علماً» يُدرّس في الجامعات.

يزور مندوبو شركات الدواء وكذلك شركات الأغذية المتخصصة أهل الصحة لعرض صوابية ما يدّعون، ويحضّونهم على وصف بضائعهم عبر «طرق» شتى، بينها الترويج لشهرتها بدعوة الأطباء والمراكز إلى محاضرات «علمية»، وبالهدايا، أو بتمويل مشاريع وعقد شراكات. مثال: فضيحة المجلة العلمية الأميركية الشهيرة «الغذاء والسمّية الكيميائية» (وهي مرجع!) حيث تبين أن مديرها يتلقى نصف مرتبه (الهائل) من شركات مونسانتو وباير وباسف (التي انفجر معملها للكيمياء قبل أيام في ألمانيا).

كل ذلك معروف. ولكن الناس عالقون في الشِباك ولا يمكنهم إلا اتباع القائم في ظل الهيمنة المطلقة لهذه المنظومة وغياب خيارات أخرى، إلا ربما الاستنكاف عن العلاج تشككاً. وهذا ليس حلاً بالطبع، فهو سلوك متطيّر وبدائي، ودعاته مجموعات ضيقة ومنعزلة (حيث توجد في بعض البلدان معسكرات حياة لأنصار هذا المبدأ، تخلع المجتمع القائم ومؤسساته وتبني عالمها الخاص...)، أو الوقوع ضحية المحتالين بكل صنوفهم، الممارسين لخزعبلات لا حصر لها. وفي هذا البند الأخير، وعدا الفقر والجهل وغياب مؤسسات العناية الصحية العامة، وسطوة بعض المعتقدات التي تدفع المريض للتوجه إلى من ليس طبيباً بل يدّعي امتلاك قدرات خاصة، فإن عدم الاهتمام بأي طب بديل، سواء كان حديثاً ووافداً من الغرب أو تقليدياً مصدره حضارات عريقة، والامتناع عن تقنينه والاعتراف بالأطباء المؤهلين لممارسته، يترك المجال واسعاً لما يقال له «طب شعبي» معظمه غير فعال أو مميت!

في منطقتنا، خبا فعلياً الطب العربي العريق. ربما بسبب قربنا من أوروبا التي صارت مركز العالم منذ قرون عدة واختلاطنا بها، وربما أيضاً لأننا في حال بائس على كل المستويات، فلم نبنِ مؤسسات تحافظ على هذا التراث وتطوره وتحميه، بينما حصل هذا مع المدرستين الطبيتين الشرقيتين الأخريين، وكلتاهما عمرها آلاف السنين: الطب الصيني والطب الهندي، القائمتان على فلسفة مخالفة تماماً عن الطب الغربي الحديث، إذ تريان الطب منظومة متكاملة أولاً، وأن الجسم والقلب والنفس كلٌ، وهما تقومان لفهم الصحة بمراقبة الأحياء وليس بتشريح الأموات، ما يعني رفض السكونية، وأيضاً تحترمان الصلة بين الظواهر الصحية بعكس فكرة التجزيء والتخصص الشديد. وفي البلدين الكبيرين مؤسسات دولتية تراقب وترعى وتقنن، ما لا يعني التخلص من قانون الخضوع لحسابات الربح والمال، وإنما لعله ما زال بحدود لم تصبح طاغية، وأيضاً لصعوبة عائدة لهذه الركيزة الفلسفية المخالفة للطب الذي نعرفه، والذي يخضع هو الآخر لفلسفة حقيقية: المعيار هو النجاح في الأعمال وفي تحقيق أعلى ربحية ممكنة، بلا قلق من الوسائل.

منظومة عبادة المال والربح هذه تهدد بالقضاء على البشر وعلى الكوكب نفسه: هناك «إيكوسيد» (إبادة للبيئة) تقع، عرضتها طولاً وعرضاً الأسبوع الماضي في لاهاي المحاكمة التي جرت لشركة مونسانتو (التي اندمجت بشركة باير للدواء): عشرات الشهادات عن أمراض وتشوهات بسبب المبيدات الحشرية (وأبرزها مادة «الغليفوسات» المسوّقة بماركة «راوند أب»، وهو سُحب من الأسواق... وعاد باسم جديد)، والبذار المعدلة جينياً التي تُخصي الزراعة... بينما يمدد الاتحاد الأوروبي (بضغط من اللوبيات الهائلة) إجازته لها 18 شهراً «لمزيد من الدراسة»، ويتوتر لأن دولاً أوروبية ترفض إقرار «اتفاقيات التجارة الحرة» (الأميركية، سواء تافتا أو سيتا) التي تزيل آخر التدابير الحمائية للمنتجات والصحة.

أما في بلادنا فالأمر لا يحتاج لاتفاقيات حتى يستباح كل شيء!