إميل أمين

عدة أحداث مر بها العالم العربي أخيرًا، أفرزت قناعة بأن البيئة الفكرية والذهنية العربية لا تزال حاضنه للأصولية، دافعة في طريق العنف غير المقدس، ومعبأة بصدأ التطرف، الأمر الذي يستوجب حالة من حالات «مساءلة الذات» الإيجابية لا «جلد الذات» السلبية. ومن ثم طرح أسئلة جوهرية مثل «كيف أسهمنا نحن بدورنا كشعوب وأنظمة فكرية وسياسية، ومنظومات اجتماعية وتعليمية، في الوصول إلى تلك اللحظة المخيفة، لحظة تحول الأصولية الساكنة تحت الجلد إلى أصوليه فاعلة بل ومن الأسف قاتلة؟».
السؤال المتقدم يذكرنا بما قاله وولي سوينكا، الكاتب المسرحي والشاعر والفيلسوف النيجيري ذات مرة إن «الفشل في تفحص ذاتنا يقلل من قوه تأثير استجابتنا على المدى البعيد، كما أن هذا الفشل يحصرنا في عقلية المتعصب، فالمتعصب أو الأصولي شخص لا يسعى مطلقًا للشفاء من دائه، بل قد يكون عاجزًا عن التعافي، وتتلاشى من أمامه لحظة شك ساورته، أو خيارات ممكنة كانت متاحة له، أو الإمكانيات المفقودة مع طريق لم يسلكه». نحن إذن أمام دراسة حالة لما يمكن أن نطلق عليه «العقل الأصولي» الذي لم ينشأ من فراغ على نكوص ماضوي، يقدّس الماضي ويتحرّق شوقًا للعودة إلى الأساس، هذا العقل قطعًا اصطدم بكثير من العقبات الحياتية، دفعته إلى حاله هروب مزدوجة، إلى الخلف لجهة التراث والسلف بشكل سلبي لا إيجابي، وللأمام عبر الاحتجاج بالعنف، أي القوة المسلحة التي تترجم في التعاطي مع الآخر في ميادين الرماية، لا في دوائر الأنوار الحوارية والفكرية.
لعل هناك عوامل أساسية وراء تحول الأصولية الساكنة إلى أصولية عنيفة فاعلة. إذ من المؤكد أن حالة الانسداد التاريخي العربي الحالية التي أفضت إلى الأصولية الظاهرة لاحقًا لم تتأتَ من فراغ، بل دعمتها عوامل كثيرة، في مقدمها جدب الفكر العربي الذي كان يومًا ما يطوف الآفاق مخبرًا ومحدثًا بمآثر الحياة العربية وإبداعاتها علميًا وأدبيًا وثقافيًا واجتماعيًا. هذا الجدب وقفت وراءه ركائز لا تزال تسبب له الصعود إلى الهاوية والتقدم إلى الخلف، إن جاز التعبير.

الركيزة الأولى
الركيزة الأولى تتمثل في فشل العملية التعليمية الحديثة، ذلك أنه عوضًا عن عقلية الإبداع، ها نحن محاصرون بذهنية الأتباع، الأمر الذي جعل مساحة الأسطورة في العقل العربي أوسع وأعمق من مساحة الحقيقة. وهو ما أتاح فتح الباب واسعًا للجهل ومسوغاته عند العوام، والخرافة وسطوتها عند كثيرين، وساعد على هذه الحالة المؤسفة، تحول النخبة من جماعة نهضوية إلى نهبوية، تسعى وراء مصالحها الخاصة في أنانية غير مستنيرة. ثم كان العجز عن إدراك مناهج عملية حديثة، تترك بديلاً واحدًا لأنظمة تعليمية، متدنية ومنفصلة عن الواقع، أنظمة فرّخت لنا شخوصًا لا يؤمنون بالآخر، ولا بحقه في الحياة والتعبير، أنظمة «مالكي الحقيقة المطلقة» التي لا تخرج إلا الطغاة فكريًا على الأقل. وفي ظل عملية تعليمية متخلفة تمارس من خلالها رؤى تسلطية تكون اللاعقلانية هي النموذج السائد، والأحادية الفكرية هي المثال المتسلط، والصوت الأعلى الزاعق هو المتسيد، وساعتها تستدعى الأصولية الفاعلة، تلك الساكنة لتخرج لاحقًا على الملأ تقتيلاً ونحرًا باسم الدين والمذهب والمعتقد.
ولعله يجدر بنا الإشارة إلى أن عالم المتعصبين والأصوليين واحد، ويتداخل مع جميع الأديان والآيديولوجيات والطموحات، فالروافد التي تغذّي مستنقع التعصب، قد تأتي من مصادر مختلفة، وقد يفصل بينها التاريخ والظروف المناخية والجنس أو أشكال الظلم والحرمان المتعددة، لكنها تلتقي في المصب نفسه، أي موقع اليقين المطلق الذي لا يناقش، ويدفعها دافع يسمح لكل شخص بأن يعلن نقاء ذاته ونصوع بياضها في مجتمع فاسد ملوث.

الركيزة الثانية
الركيزة الثانية التي تدفع الأصوليات الساكنة تجاه التحرك الفاعل وإن بشكل سلبي، تتمثل في حالة المجتمعات العربية ذات النموذج الأبوي، الذي فيه تقلص الحريات الفكرية إلى حد الغياب. وبعد 100 سنة من السؤال عن سبب تخلف المسلمين وتقدم غيرهم، ها نحن نكتشف ومن جديد أننا نسعى في طريق التحديث الظاهري لا الجوهري، وبعبارة أخرى يمكن القول إن البنية الخارجية للحداثة لم تستطع أن تحجب البنية القبلية الأسطورية والسحرية التي تعيش في أعماق الإنسان العربي وتعشعش في عقله.
هذا النظام الأبوي الذي تجاوزته منعطفات الأحداث في القرن الحادي والعشرين، أعطى مسالك ودروبًا فرعية آيديولوجية لجماعات الأصولية الفاعلة، فالرافضون للتسلط الأبوي تتم استمالتهم ومن ثم تسكينهم داخل جماعات أصولية حركية على الأرض توفر للأعضاء الجدد الدعم الأدبي والإنساني قبل المالي، شريطة تخلّص المجند من هويته القديمة، وتبنّيه هوية الجماعة الأصولية التي ينضوي تحت جناحيها. ومن الضغوط التي تمارسها الجماعة على المجند تبزغ بذور الخطوات التالية، وأهمها أن يصبح جزءًا من جماعة الشهداء الذين يربطهم رباط الأخوة ويضحون بحياتهم معًا من أجل قضاياهم. ومن هنا رأينا ونرى الانتحاريين وأصحاب السيارات المفخخة والبنادق الآلية التي توجه فوهاتها إلى صدور الكتاب والمفكرين، بوصفهم «خوارج العصر» في مواجهة أصحاب الحقائق اللامعة الناصعة، أو الحق مقابل الباطل، حسب تقديرهم. وهم في ذلك مرضى وضحايا أكثر منهم مجرمون.. كيف ذلك؟

الركيزة الثالثة
الركيزة الثالثة في الطريق تتصل بالأزمات الاقتصادية بوجهيها المالي والسياسي في العالم العربي. وحديث الجدل القائم بين الأصولية والأوضاع الاقتصادية، ذو شجون. وخذ على سبيل المثال لا الحصر، أفكار «الخصخصة»، أي تحويل قطاعات صناعية وطنية عريضة إلى قطاعات خاصة يمتلكها الأفراد، ولا رقابة أو سيادة للدولة عليها. هذه السياسة القاتلة في بعض الأقطار العربية محدودة الموارد كبيرة السكان. وفي ظل السخط السائد من الأوضاع الاقتصادية، كان من الطبيعي أن يحدث استقطاب للآلاف من الشباب إلى داخل الجماعات ذات المسحة الأصولية، مهما تعددت الأسماء أو اختلفت التوجهات الظاهرة. ثم هناك شق الخواء السياسي وغياب القيادات «الكاريزمية» القادرة على تجييش العقول والقلوب باتجاه الأفكار الوطنية والمنفتحة، في حين لمعت أسماء قيادات أصولية جذابة زخّمت الأصوليات النائمة وأثرت الفاعلة منها. ولقد اتخذت رسائلها الأصولية والمتطرفة شكلاً مختلفًا من ناحية الكيف، وخصوصًا بعد أن تتبلور تلك الرسائل في حركة تتجه بعدها نحو العنف في حرب مفتوحة تشنها محليًا وقوميًا، وإقليميًا وعالميًا ضد النظام القائم.

الركيزة الرابعة
الركيزة الرابعة والأخيرة تتصل بما أطلق عليه «الربيع العربي»، ذلك أن تبعاته وتداعياته لا تظهر في الحال، بل تتجلّى مستقبلاً. وفي مطلق الأحوال يمكن القول إن حساب الحصاد بالنسبة للجماعات الأصولية جاء مخالفًا شكلاً وموضوعًا لحساب الحقل الذي عملت فيه الأصولية الفاعلة عبر ثمانية عقود. وأيًا كانت أسباب الإخفاق، فإنها ولّدت عند المريدين والأتباع غصّة عميقة، من ينكرها ينافي الحقيقة، ومن يتجاهلها عمدًا يعرض ذاته لمغالطات موضوعية. بل أكثر من ذلك، يمكن القول إن هناك قطاعات عريضة من الذين كانت تراودهم أحلام الأصولية الساكنة انتقلوا إلى الفئات الفاعلة. وكل ما ينقصهم الآن للظهور على السطح أمران؛ الأول، توافر السياق السياسي والاقتصادي والبيئي لموجة عنف جديدة ستكون أشد من سابقاتها. والثاني، توافر السلاح بأشكاله المختلفة، المعنوية والمادية، وما رأيناه في الأشهر الأخيرة عبر بقاع وأصقاع عربية مختلفة، يعد إرهاصات للأسوأ الذي لم يأتِ بعد.
الإشكالية الحقيقية هنا التي قد تغيب عن أعين كثيرين، هي أن الأحلام والصبوات التي تسكن عقول الجماهير المثالية بعد الثورات كثيرًا ما تنافي وتجافي الواقع فيما بعد، لا سيما، في حال «الثورات التاريخية» - التي يتحدث عنها ثعلب السياسة الخارجية هنري كيسنجر - والتي لا تخلف إلا الخراب والدمار لدولها لا الثورات الديمقراطية التي تعيد بنيان ما قد تهدم. ففي هذا الإطار تغدو الفرصة ذهبية للجماعات الأصولية العنيفة، لاصطياد - وليس استقطاب - أولئك اليائسين والمجروحين في رهاناتهم الثورية، إلى داخل دائرة الأصوليات العنيفة على الأرض.