محمد المزيني

حوار استثنائي على طاولة «ثامنة» داود الشريان، جمع أقطاب أزمة المواطن والدولة، وزير المالية إبراهيم العساف، ووزير الخدمة المدنية خالد العرج، ونائب وزير الاقتصاد والتخطيط محمد التويجري، في حلقة أعلنها مبكراً وسرّب بعضاً منها قبل بثها بليلة.

الملاحظات الأولية على هذه الحلقة المنتظرة بتطلع وشغف هي، أولاً: أن أسئلة الحلقة أعدت إعداداً محكماً وطرحت بأسلوب مباشر بلا مقدمات، وهو ديدن المحاور الشريان الذي تعودنا منه التلقائية في كل برامجه، افتتح حواره بالقرارات التي جاءت بعد كارثة النفط. ثانياً: كشفت الحلقة أن الضيوف الذين جاؤوا يتأبطون صدمةً بـ«فولتيّة» عالية غير متوقعة، لم يكن بينهم سابق تنسيق أو ترتيب للإجابة على أسئلة «الثامنة» بطريقة تعفيهم من كل هذا الحرج الذي كشف عمق المشكلة منذ بداية الحلقة، على رغم أن الأسئلة كما هو مفترض عادة في لقاءات بهذه الأهمية أن تكون عرضت مسبقاً على الوزراء، وهذا مؤشر على أنهم لم يستعينوا جيداً بمستشارين إعلاميين يسهلون عليهم «وعورة» هذا المرتقى الصعب، الذي أوقعهم في ورطة مع المواطنين المتطلعين لمن يطمئنهم على مستقبلهم لا من يلقي في قلوبهم الرعب ويكيل لهم الاتهامات جزافاً. ثالثاً: بدأت الحلقة بشيء من الفتور على رغم ثقل السؤال الأول عن الصناديق الاستثمارية الذي وُجّه لوزير المالية الذي حاول في معرض الإجابة عليه أن يكون مبرراً أكثر من كونه قارئاً لعمق المشكلة لتجيء إجابة الأستاذ التويجري مباشرة ودقيقة لتنهض بالحوار إلى مستوى الشفافية المرة، عندما ذكر أن ثمة فرصاً ضائعة كانت أمامنا لم نستثمرها كما ينبغي، وذلك عند انهيار الأسواق العالمية في 2008. رابعاً: لم تتضمن الحلقة تقارير إحصائية جادة تبين واقع الاقتصاد بعد كارثة هبوط النفط والبدائل التي اتخذت لتسديد العجز في الموازنات المقبلة، أو حتى ما تضمنه برنامج 2030 يمكن من خلالها استشراف المستقبل، عدا ما قدمه نائب وزير الاقتصاد والتخطيط محمد التويجري الذي أظهر منذ بداية الحلقة ما أرادوا البوح به صراحة وفجّر الخطوط الأمامية للجبهة الحوارية، مما أحرج الضيفين الآخرين وجعلهما يقتحمان المعركة بجسارة ظناً منهم أنهم بهذا سينتصرون على المواطن ويكبلونه بحقائقهم المزعومة. خامساً: على رغم ما «أثاروه» من أغبرة إلا أن الحلقة انتهت لمصلحة المواطن بامتياز، الذي لم يصدق كل هذه المزاعم وتناولها بكثير من السخرية.

الحوار كان صادماً بكل ما تعنيه الكلمة ليس لما تضمنته إجاباتهم، بل لأن المسؤولين لم يحترموا عقول الناس، كما لم يحترموا مهنية العمل والمؤسسات التي ينتمون إليها. طبعاً استثني من هذا وزير المالية الذي بدا متحفظاً إلى حد ما في كثير من الإجابات وفي بعضها حاول التخفيف من حدتها، فلم تكن إجاباتهم سوى حفنة من التبريرات الواهية، وأقحمونا في ما هو من صميم عملهم، فما حاجة المواطن إلى معرفة الترهل الوظيفي والبدلات الفائضة عن الحاجة منذ سنوات، أليس هذا من صميم عمل وزير الخدمة المدنية؟ فهو المدان أولاً وأخيراً، فلِم تمّ السكوت عليها حتى وقع الفأس بالرأس؟ لن أناقش الآن رأي وزير الخدمة حول إنتاجية الموظف، فهذا الموضوع سأفرد له مقالةً خاصةً به من واقع تجربتي الوظيفية.

محمد التويجري كان متحفزاً منذ البداية باستخدامه أسلوب حرق المراحل لتتويج اللحظة الراهنة كواقع يجب القبول به من دون العودة إلى الوراء، وهذا منطق بطبيعته غير مقبول جملة وتفصيلاً، فمن سيقتنع أن دولة في خزانتها عام 2015 أكثر من 800 بليون دولار ستعاني من حال كساد في 2016 حتى لو أقسم لنا بالأيمان المغلظة، حتى لو ألقى تبعات ذلك على وزارته التي يعمل بها وأنها كانت أقرب إلى التخبيط منها إلى التخطيط، فما الجديد في أن السعودية معتمدة كلياً على النفط وأن 90 في المئة من عوائده تذهب إلى الرواتب و10 في المئة تصرف على تنمية البلد، هل هذا يكفي لاتهام إنجازات الوطن عبر حقب مختلفة بالفشل وأنها لم تكن تبني سوى الوهم، وأن هذه النسبة الضئيلة تذهب إلى مشاريع لا يستفاد منها كالجسر الذي بني بـ50 مليون ريال بلا عائد نفعي حقيقي منه، والكليات التي أغلقت والأبراج السكنية التي هجرت، وأن الكثير من منجزاتنا أصبحت عبئاً على الدولة كالجامعات والمدارس لافتقارها إلى مصروفات أخرى للصيانة والتشغيل.

أرادوا أن يقولوا لنا: أن كل هذه التظاهرة الحضارية التي نبدو عليها نحن الآن ونتباهى بها بين الناس لا تعدو كونها ترف استثمرنا فيه من دون النظر إلى عواقبه الوخيمة، لقد جهدوا في حوارهم لإقناعنا بأنه ليس لدينا أدنى خطط واضحة ذات أهداف حقيقية، وأننا ندور في فلك اقتصادات معتمة نحتاج معه إلى اكتشاف المخارج السرية التي تنتشلنا منه قبل فوات الأوان، ومع هذا لم نجد هؤلاء المسؤولين «ضيوف الثامنة» فكروا بطرق ذكية وحاذقة بعيداً عن لقمة عيش المواطن، ولا نحتاج هنا إلى تذكيرهم بما حدث في تسعينات القرن الماضي، بعد أن خرجنا من حرب أكلت الأخضر واليابس كما عبّر الملك فهد رحمه الله، وسعر النفط كان في تدن مضطرد حتى وصل إلى 18 دولاراً للبرميل، ومع ذلك لم تقم قيامة البلد ولم يمس جيب المواطن، فأديرت بحيل اقتصادية ذكية حتى انقضى الأمر على خير.

اليوم فقط نحتاج إلى تنويع مصادر الدخل بعيداً عن دخل المواطن بشكل تدريجي، حتى نصل إلى مستوى جيد يضعنا على الطريق التنموي الصحيح، فالأزمات لا تحل ما بين يوم وليلة. ما أتمناه على وزرائنا أن يبتعدوا عن لغة التخويف والإرجاف. ونحن بخير.