يوسف مكي

تبقى معركة الموصل في مراحلها الأولى، وتبقى مفتوحة لكل الاحتمالات، لكن العراق بعدها لن يكون كما كان من قبل

بعد أكثر من عامين وأربعة أشهر على احتلال الموصل من "داعش"، بدأت القوات العراقية مسنودة بالطيران الأميركي، معركة استعادة المدينة، وسط إلحاح تركي على المشاركة في تلك الحرب، وصراع إقليمي وكردي محموم على اكتسابها.
مدينة الموصل، هي الثالثة من حيث الحجم وتعداد السكان، والعمق التاريخي، ضمن مدن العراق. 
وقد تعرضت للتهميش من الحكومة التي عينتها إدارة الاحتلال، وجرت محاولة طمس هويتها العربية بعد الاحتلال الأميركي للعراق، شأنها في ذلك شأن جل المدن العراقية. 
ظلت المدينة، منذ تأسيس الدولة العراقية، مخزونا بشريا رافدا للمؤسسة العسكرية. 
وكانت معاناتها كبيرة من قرار حل الجيش العراقي وقرارات الاجتثاث، مما خلق بيئة حاضنة للمقاومة الرافضة للاحتلال الأميركي، والتدخلات الإقليمية في شؤون العراق، عبدت الطريق لوجود تنظيم داعش في الموصل وغيرها من المحافظات. 
جاء احتلال العراق ضمن مخطط تفتيته، واستغلال هشاشة الأوضاع الأمنية وضعف سيطرة الدولة في العراق وسورية، لإقامة منطقة عازلة بين العراق وسورية، خطط لأن تكون باكورة دولة الخلافة التي يقودها تنظيم داعش. 
وعلى طريق تحقيق مشروع التفتيت، تم احتلال محافظات: الأنبار، وصلاح الدين وديالى ونينوى. وخلال الشهور التي مضت تم طرد تنظيم داعش من معظم هذه المحافظات، وبقيت الموصل، معلما يجسد عجز الحكومة في المركز، عن الدفاع عن العراق وحماية وحدة أراضية.
إن من الصعب في هذه العجالة، تقديم قراءة دقيقة لمعركة الموصل، والنتائج التي يمكن أن تتمخض عنها. 
لكن أي قراءة للواقع الراهن لن تكون صحيحة، ما لم تربط هذا الواقع المتشظي بالاحتلال الذي أودى بالدولة الوطنية العراقية، وحل الجيش العراقي، صمام الأمان في الدفاع عن عروبة العراق وأمنه. 
وأيضا بالظروف التي تزامنت مع سقوط العاصمة بغداد، من نهب للمتاحف وحرق للجامعات، وقتل على الهوية، وتسعير للنزعات الطائفية المقيتة.
كان من إفرازات احتلال العراق، تمدد العمق الإستراتيجي لطهران ليشمل أرض السواد بأسرها، وقيام حكومة حليفة لإيران في أقل تقدير. 
أما الإفراز الآخر، فهو العملية السياسية التي أخرجت العراق دستوريا من انتمائه العربي، واعتبرته بلدا يضم عربا عراقيين، وليس بلدا عربيا بالتاريخ والجغرافيا. 
وترتب على هذه العملية، قيام نظام على أسس القسمة بين الطوائف والأقليات الإثنية، والتمهيد لعزل شمال عراقي عن بغداد، تمهيدا لفصله التام عن العراق.
جاءت أحداث ما عرف بالربيع العربي، لتضاعف من طبيعة الأزمة. فقد نتج عن عسكرة الحركة الاحتجاجية في سورية، تضاعف دور القاعدة و"داعش" وأخواتهما، وتحول سورية إلى ساحة احتراب إقليمية ودولية. 
وبديهي أن تستثمر التنظيمات الإرهابية، هشاشة الأوضاع في البلدين العربيين المجاورين، لتستبيح أراضيهما ولتدشن "داعش" مشروعها في الخلافة الإسلامية. فكان اختيار المحافظات الشرقية من سورية، والمحافظات الغربية من العراق، لتشكل مشروع "داعش" للدولة الإسلامية.
ولم يكن لهذا التمدد أن يتحقق بالسرعة التي حصلت، من غير توافقه مع أجندات إقليمية واضحة، عملت على إضعاف الكيانات الوطنية، لتسهيل عملية الانقضاض والهيمنة، وبما يتماهى مع مشاريع تقسيم المنطقة العربية، المطروحة بشكل واضح وصريح من الغرب، منذ أكثر من أربعة عقود.
وقد وجد الانفصاليون الأكراد، في العراق وسورية، في هذه الفوضى فرصة لتحقيق صبوات قومية قديمة، فعملوا على استثمارها، وتوسيع حدود جغرافيا الكيان الكردي المتخيل ليشمل أراضي جديدة، لم تكن بالأصل في حسبان من رسموا وخططوا لفصلها عن الوطن الأم. 
وهنا تتضح تعقيدات الحرب على الموصل. فالأكراد يتطلعون من دخولهم هذه الحرب، إلى السطو على مدينتي كركوك والموصل، وهما مدينتان لم تكونا على خارطة الإقليم الكردستاني المتخيل، أثناء الصراع الملحمي الذي استمر أكثر من 6 عقود، بين الدولة العراقية وبين المتمردين الأكراد. 
وهنا أيضا، تتضح طبيعية التقاطعات بين القوتين الإقليميتين: إيران وتركيا. فكلتاهما لا ترغبان في قيام دولة كردية مستقلة، سواء فوق الأراضي العراقية أو السورية، لأن ذلك من شأنه أن يوسع دائرة المطالبات باستقلال الكرد الموجودين في إيران وتركيا، وهم بالتأكيد أكثر تعدادا بأضعاف عن الأكراد الموجودين في العراق وسورية. 
نقطة التقاطع الأخرى، هي "داعش" التي باتت خطرا محققا على الاستقرار في عموم المنطقة. 
وفي هذا السياق، تبرز ازدواجية المعايير لدى القوتين الإقليميتين. فإيران لم تكن تمانع من التنسيق والتعاون مع "داعش" في مواجهة الأميركيين، وتركيا لم تمانع من دعم "داعش" حين يتعلق الأمر بسورية. ولكنهما معا، يدركان أن "داعش" تنظيم منفلت لا يمكن التحكم في حركته، وأنه لن يتورع عن القيام بعمليات تخريبية داخل أراضيهما. ولذلك فهما يسعيان إلى ضربه في مناطق والتنسيق معه في مناطق أخرى، وفقا لمصالحهما ورؤيتهما الإستراتيجية. 
أما بالنسبة للأتراك، فإنهم لا يقفون مرحليا على الأقل، ضد استعادة الحكومة العراقية للموصل، شرط أن يكون العراق موحدا. 
أما أن يستولي الأكراد على هذه المدينة، بما يستتبع ذلك من استيلاء على مدينة كركوك، فإن الأمر مختلف جدا. 
إن ذلك سيدفعهم إلى إعادة الروح لمطالب يعتبرها الأتراك تاريخية لهم في الموصل. ومن هنا يطالبون بضرورة المشاركة في الحرب، لضمان ألا تسقط الموصل في يد الميليشيات الكردية "البيشمركة". 
إيران في هذا السياق تتخذ موقف "بين بين"، فهي لا ترغب في استيلاء الأتراك أو الأكراد على الموصل، لكن ليس في مقدورها منع ذلك، وإذا فرض عليها أن تقبل بأحد الأمرين، فإنها تفضل سيطرة الأكراد، وليس الأتراك، لحسابات تتعلق بمستوى توازنات القوة. 
وتبقى معركة الموصل في مراحلها الأولى، ومفتوحة لكل الاحتمالات، والعراق بعدها لن يكون كما كان من قبل.