سمير عطا الله 

 فقط من أجل التسلية، فلنأخذ ثلاثة من عباقرة فرنسا: رائد الرسم الكاريكاتوري دومييه، مشوّه الوجوه. ورودان، أشهر النحاتين. وبلزاك، أشهر الروائيين. لا أنت ولا أنا يهمنا شكل الروائي وحظوظه من الوسامة أو الدمامة. وهناك صورة شائعة لبلزاك، يبدو فيها «طريفًا»، مثل الفنانين، ولكن معقولاً، وقد رسخت وحدها في ذاكرة الناس.

غير أن رودان قرر أن يُظهر عبقرية بلزاك في التمثال الذي نحته له، فصور شكله السمين، اللولبي الطيات، الضخم الرأس، القصير القامة، وكأنه ينبوع تتفجر منه الحيويّة، أي بعكس شكله الحقيقي، الذي كان أقرب إلى اللحامين والبقالين في رسوم دومييه. حسنًا، أين المشكلة إذن؟
المشكلة يا مولاي «شعبية» بلزاك بين نساء باريس. كثيرون من قصار القامات ضخام الرؤوس كانوا يأتون إلى الأوبرا ويزعمون أنهم بلزاك. وكان ذلك كافيًا للخروج بصحبة سيدة أرستقراطية من المجتمع النسائي الذي تولّه بسمعة بلزاك الأدبية والشخصية. أما هو، فكان كلما لاحقته سيدة، شكا لأصدقائه بأنه «خسر كتابًا الليلة الماضية». فهذا العبقري الرائع المستوى كان مكثارًا غزير الإنتاج أيضًا. ويقال: إنه كان يؤلف رواية في أيام لتسديد ديونه في القمار. وأجمل ما قرأته له قصة قصيرة بعنوان «القرش» عن مدمن لم يبق معه سوى قرش ذهبي واحد. وفيما هو مار في شارع ريفولي، تذكر المقمرة هناك، فصعد إليها يحلم بمضاعفة القرش. لكن حدث للقرش ما يحدث له في جميع المياسر وجميع الخسائر.
بعد وفاته عُثر في أوراقه على عشرة آلاف رسالة من النساء المعجبات. أما هو، الذي قضى طفولة خشنة في المدرسة الداخلية، فكانت حبه الأول امرأة أكبر من أمه سنًا. وهكذا مع اللاحقات. أخفق معلّموه في الداخلية في الانتباه إلى أي ذكاء مبكر، فكانوا ينزلون به العقوبات القاسية. وكان يمضي أربعة أيام في الأسبوع مُعاقبًا في سجن المدرسة. وفي ذلك السجن، راح يحلم ويتخيّل عوالم افتراضية سوف تشكل روائعه الروائية فيما بعد.
وكان يقول إن قسوة الزنزانة في المدرسة لم تدربه فقط على تخيّل أبطاله، بل أيضًا على الهروب إلى عالم افتراضي كلما شعر بالحزن والكآبة وبحث عن مَخرج لا وجود له في الواقع. علمته الزنزانة الهمجية أيضًا قوة الإرادة. فقد كانت بداياته الأدبية ضعيفة ومرفوضة. وفي ذلك كتب بودلير أنه لا يمكن لأحد أن يتخيل أن تلك البدايات الطفولية سوف تتحول إلى هذه التحف الأدبية. لكن فلنقرأ في روايته «حورية المنطقة»: «لا وجود لموهبة كبرى من دون إرادة عظيمة. توأمان لا بد منهما من أجل بناء نصب عظيم لمجد فردي. الرجال المتفوقون يبقون عقولهم في حالة إنتاج، كما كان الفرسان في الماضي يبقون سيوفهم في حالة تأهب».