غسان الإمام

 هل الغرب (أميركا وأوروبا الغربية) في انحدار؟ هناك مَنْ ينفي. لكن يعترف بنشوب أزمات متعاقبة، بعد انهيار النظام الشيوعي (1991)، هزت وتهز النظام الرأسمالي. والمؤسسة الديمقراطية الليبرالية التي حكمت الغرب 70 سنة، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وتعصف بالحكومة المالية التي تتحكم بالعالم خفية، عبر العولمة. والحرية التجارية.
لم تعد السلطة التشريعية المنتخبة تتحكم بالقرار السياسي. فقد اهترأ فن المساومة والتسوية. وتسيطر على القرار المؤسسة الرئاسية. ونزل الحوار إلى الشارع. وباتت تشارك في إدارته قوى غير ديمقراطية، كقوى اليمين المتطرف والشعبوي في الغرب. والقوى الدينية المتسيسة في العالمين العربي والإسلامي، الرافضة للديمقراطية والحرية السياسية. وتم تحييد القوى السياسية والحزبية المعتدلة. واليسارية. والقوى المثقفة المنتمية للبروليتاريا. أو الطبقة الوسطى.
وانتفى مبدأ فصل السلطات. وبغياب الصحافة الحرة، ساد القمع المروِّع في الشارع. والتعذيب البشع في السجون. وانحرف الإعلام الفضائي عن الالتزام بحد أدنى من نشر الحقائق. وأفلتت مواقع الوصل الاجتماعي من كل قيد يضبط. ويردع التضليل والأكاذيب. وانحدر مستوى تعليقها وتحليلها السياسي. فكتّابها الهواة شبه المتعلمين وشبه الأميين مارسوا الكتابة. قبل القراءة.
بعد الحرب العالمية الثانية، حققت أحزاب اليمين. واليسار. والوسط الليبرالية الحاكمة في الغرب استقرارًا وسلامًا للديمقراطية. واستلهمت «اتحاد» الولايات الأميركية، فأقامت اتحادًا أوروبيًا. وأنشأت مع أميركا مناطق تجارة حرة في آسيا. وأفريقيا. وأميركا اللاتينية. وأسست حلفًا عسكريًا (الناتو) لردع روسيا الحمراء خلال الحرب الباردة. ويحاول محاصرة ديمقراطية بوتين «الموجهة» حاليًا.
في وثيقة سياسية مشتركة، يحدد وزير خارجية إسبانيا الأسبق خافيير سولانا. وستروب تالبوت نائب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، علامات الانحدار الغربية. فيلخصانها بظاهرة دونالد ترامب. وصعود القوميات الشعبوية. والفاشية. وإطلالة مبدأ «الحماية التجارية». وتردي قيم الديمقراطية، بما فيها مبدأ إيمانويل كانط فيلسوف «السلام الدائم».
ويرجع هذان السياسيان المتقاعدان العطب في المشروع الليبرالي، إلى اتساع البطالة المقنَّعة. وحرمان الشرائح الشبابية من الاستفادة من الديمقراطية والليبرالية. ويدينان العنصرية ضد ملايين المهاجرين إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة. وأنا هنا كعربي، أعترض على تهجير واستيعاب أربعة ملايين سوري لدى ألمانيا وتركيا. وحرمان بلدهم المدمر من شبابهم ومهارتهم. وأدين عجز الليبرالية الديمقراطية الغربية عن تحرير سوريا من براثن روسيا. وإيران. والقوى الدينية المتزمتة والمسيسة.
وينتهي الرجلان إلى أن أزمات الرأسمالية المالية. والمصرفية. والعقارية. والانتفاضات الشعبوية ضد الديمقراطية الليبرالية والحرية التجارية، ساهمت في تراجع الغرب. وتعطيل بوتقة الصهر الاجتماعي. واللغوي. والثقافي في أميركا. وانكماش رخاء وازدهار أوروبا، بفعل التبذير. والديون. والتقشف. وعجز اليورو عن حل أزمة دول أوروبا الجنوبية. فهو عملة اتحادية غير قابلة للتعويم أو التخفيض، على مستوى الدولة الواحدة، كاليونان مثلاً.
انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وإفلات أميركا ترامب من الديمقراطية الليبرالية، جعلا الرئيس أوباما المنتهية ولايته يعهد إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، مهمة إنقاذ الغرب من الانحدار والضعف. لا أدري ما إذا كانت ميركل قادرة على استعارة حديد مارغريت ثاتشر الفولاذي لمواجهة الموجة الشعبوية اللاحضارية، وهي التي تواجه تمرد قوى التطرف، على اليمين واليسار، ضد ليبراليتها المستوعبة لمليون لاجئ ومهاجر سوري وآسيوي جديد.
التنظيم الديني المتزمت أتقن فن استخدام الإنترنت ومواقع الاتصال. فجند جيلاً من الشباب العرب والمسلمين، للقتل والانتحار، مع وعد بجنة من المستحيل أن تكون للقتلة والمنتحرين. ومحرمة على الضحايا المقتولين، فيما غدت العدسة (الكاميرا) عين العالم السحرية الراصدة لكل حركة في الدنيا، بقوة الأجهزة الأمنية التي تشكل خطرًا على خصوصية الإنسان العادي وحريته الشخصية.
هل دونالد ترامب خطر على العالم؟ هناك مبالغة ديمقراطية في تسفيه الرجل. فاستغلت أقواله وتصريحاته ضد المرأة. وزواج المثليين. ورفضه الاعتراف بنتائج الاقتراع الإلكتروني، إذا نجحت هيلاري كلينتون. هل يصل هذا الرفض عنده إلى عدم الانسحاب من البيت الأبيض، ليحاكي الإسلام المتزمت في التمسك بالحكم، إذا وصل إليه؟
تميز رد فعل القوى الشعبوية بالاشمئزاز من تمادي الديمقراطية الليبرالية في تشجيع الإباحية الجنسية. وأظن أن هذا الاشمئزاز عادل ومحق. فالإباحية ساهمت وتساهم في الحط من قيم حضارة الغرب.
ماذا تعني العولمة؟ إنها العالم الخفي. البعيد. والمجهول الذي تحكمه «حكومات» المال الاستثماري. ورجال البزنس. والمصارف. والشركات المتعددة الجنسيات ومعظمها أميركي. هذا العالم الذي تعهدته الليبرالية الديمقراطية بالرعاية، بات مرفوضًا ومكروهًا. فأوروبا تعتبر نفسها ضحية العولمة الأميركية للعالم. وأميركا ترامب تعتبر نفسها ضحية العولمة التي كفت عن خدمة مصالحها. فباتت العولمة هي البطالة في الداخل. والهجرة والإرهاب اللذين يهددانها من الخارج.
هذه الـ«أميركا» الترامبوية لم تعد معنية بنشر الديمقراطية في العالم. والدفاع عن حقوق الإنسان. فكلما تحررت الدول النامية زاد عداؤها لسياسة أميركا. لكن لا بد من الاعتراف بأن الحرية الاقتصادية والتجارية التي وفرتها العولمة للمستهلكين تخدم حياتنا اليومية. وحاجتنا إلى السلع «المركبة» التي تدخل في صنعها مواد كثيرة تشارك أكثر من دولة ومجتمع في تقديمها.
الحرية التجارية شجعت التصدير والاستيراد. وألغت الحدود. والرسوم. وقضت على الفقر المدقع في أكثر من منطقة محرومة. الصين وجدت أن سلعها الصناعية الرخيصة التي يقبل عالم الفقراء على اقتنائها، هي أكثر فائدة ورواجًا من مبادئ ماو تسي تونغ الثورية التي تسببت بمجاعات داخل الصين ذاتها. مع الأسف، فالديمقراطية الليبرالية الأوروبية والأميركية تحاول إكراه الصين على رفع سعر عملتها وسلعها، الأمر الذي يلحق ضررًا بالغًا بعالم الفقراء.
ينسى العالم الشعبوي اليوم أن العودة إلى مبدأ «الوطن أولاً» يعني سيادة شعارات الحماية التجارية والرسوم الجمركية. فقد مات العالم في حربين مهلكتين، وكانت هذه الحماية الخانقة في مقدمة أسباب نشوبهما.
ها هو الرئيس ترامب يعلن سلفًا عن الانسحاب من «حلف» الشراكة الاقتصادية مع دول حوض المحيط الهادي (الباسيفيكي). ويعتبر معاهدة «نافتا» مع كندا وأميركا اللاتينية «أسوأ عملية تجارية في التاريخ». أما الشراكة الأطلسية مع أوروبا فهي عنده «الكارثة». يبقى عليه إثبات ما يقول إنه واقع وصحيح. وإلا فلن يضمن نجاحه في خطف ولاية رئاسية ثانية.
أين العرب من هذه الديمقراطية الليبرالية المهتزة. والشعبوية الأنانية المتقدمة؟ العرب في الحالتين أشبه بالأيتام على مائدة اللئام.