تركي الدخيل 

 تدافع الناس قبل أيام للشواطئ القريبة.. صعدوا لأسطح المباني المجاورة.. تواعد العشاق على ألا يُفَوّت أحدهم لحظة اكتمال السيد الجالس في الأعلى منذ الأزل، لقد كنا جميعًا محتاجين لمعلومة من قبيل: لم يشاهد الناس القمر بهذا القرب من كوكب الأرض منذ عام 1948.
يشعر الإنسان بتفرده حين يُسمح له بالاطلاع على معلومة كهذه.. يتحسس المرء عينيه.. يعدل الفقير نظارته، ويعد الغني أسطرلابه منذ أسابيع في مزرعته لليلة كهذه.. يمد كل منهما عينه على مد بصره المتاح ليبصر ما لن يبصره إلا بعد عديد السنين، إن مرت اللحظة دون أن ينتبه، وما أكثر اللحظات العظيمة التي تمر بجوارنا دون أن ننتبه.
تبدو الأشياء واحدة في العين، لكنها تختلف في مدى الرؤية، حين تمتد للمعنى، في الشيء ونقيضه، هل يشبه قمر الفقير قمر الغني؟!
وهل يعد الفلكي منازل النجوم كما يعد التاجر أصابعه في كل ليلة يتحرك فيها السيد العجوز، من منزلةٍ لأخرى، حتى ييبس كالعرجون القديم؟!
كم لحظة تمر على الإنسان وهو موقن أنها قد تكون المرة الفريدة أو اللحظة الكاملة الوحيدة في حياته؟
لو تعامل كل إنسان منا مع كل ساعة من حياته على أنها ساعة اكتماله الوحيدة، لكانت لحظات العمر جميلة بما يكفي، لأن يكتمل القمر في كل ليلة فوقنا في كل عام، لكننا، معشر البشر، القاتل الوحيد الذي يحرق الغابات ويثقب الأوزون، ويسرف في استهلاك الماء، ويلاحق ابن جلدته، لأنه ليس من طائفته، المصطفاة، ولو من وجهة نظر.. ومن ثم يخرج لمشاهدة القمر.
نملأ عالمنا بالكراهية، نمشي وفي يد كل منا نصيبه من الدم، والنميمة، والأذى، ومن ثم حين يطل القمر نسرع كاتبين في الهاشتاغ بـ«تويتر»: «هذا القمر الجميل، هو وجه أمي حين أراها في الصباح الباكر»، بينما الحقيقة معاكسة لكل ذلك، يا لقبح الإنسان وجماله، من يكتب أمنياته في ليلة اكتمال القمر بوصفها واقعًا معيشًا في كل يوم، وحين تواجهه أمه بما كتب يجيبها بكل هدوء: «كلنا يا أمي مثل هذا القمر.. كل منا لديه جانبه المظلم البئيس يا حلوة اللبن».
من حقنا أن نسأله أيضًا - أقصد بطبيعة الحال السيد الجالس في الأعالي من سنين الأزل - سيدي القمر: هل تشعر بالأمان وأنت تقترب شيئًا فشيئًا من كوكبنا المخضب بالدماء؟! هل تخاف على رعشة البياض فيك أن تلوثها أنفاس كوكبنا الملوث؟!
هل وصلك ضجيج السيد الرئيس في طريقه للبيت الأبيض؟!
هل سمعت دوي البراميل المتفجرة في سماء سوريا؟!
لا تخَف سيدي القمر، سوف تعود بعيدًا هناك، وتتركنا دون قمر قريب لسنين أخرى قد تطول، قبل أن ينتهي هذا العالم كمزحة في ليلة صيفية.
سيخرج الفلكيون علينا بتسميات جديدة، كعادتهم حين تنتهي صور والتقاطات المصورين من حول العالم صباح اليوم التالي، سينظر لتلك الصور كثير من السادة الشعراء، وستضاف كلمات كثيرة على القواميس في أغلب اللغات.. ستصبح لحالة القمر العجيبة أسماء كثيرة، وسيضاف هذا التاريخ حدثًا مهمًا في كتب الفلك والفيزياء، لكن لن يتوقف السيد العجوز عن الإطلال، وسيبكي على الأطلال! على هذا العالم المنكوب بسكانه.. سيتراجع قليلاً لموقعه المعتاد، ينفض عنه كل الزوائد على اسمه من عملاق وعظيم.. يلبس بدلته المعتادة منذ الأزل، ويشع بابتسامة أجمل الأسماء.. دون إضافات وأوصاف، هكذا منذ الأزل: القمر.. وكفى!