غسان الإمام

الثورة فعل غاضب. نادرًا ما كان الثائر باسمًا. كان فيدل كاسترو الذي مات منذ أيام ساخرًا. سخر الثائر الكوبي من كل الذين حاولوا قلبه. أو اغتياله: أعطني العمر. وألقني في البحر. كل مياه البحار والمحيطات لم تكن كافية لإغراق كاسترو. كان أطول وأعلى من الأمواج. ومات خصومه وأعداؤه أقصر عمرًا منه. وعاش هو إلى التسعين.
عندما أدرك كاسترو أن الموت قادم لا محالة. والفناء حقيقة محتمة، أمر بأن يحرق جثمانه. رفض أن يحنط كماو ولينين. أبى أن يودع في صندوق زجاجي جثة. هامدة. باردة. مخيفة. مقززة. حتى في موته، كان كاسترو غريبًا. غير مفهوم. كان ساخرًا. هازلاً. هازئًا بالنقيضين. بالموت والحياة معًا.
في سخريته اللاذعة، كان كاسترو يقول إنه لن يقابل أعداءه وخصومه. فقد ذهبوا جميعًا إلى الجنة. وسيبقى وحيدًا ليحترق وحده بالنار. هو وأولئك لم يأخذوا مالاً معهم إلى ترابهم. وأبديتهم. كماركسي أمين، فقد استغنى عن المال في الحياة. كان يحب الفقراء. لماذا نحب الفقراء؟ لأننا خلقنا منهم الكثيرين. مئات الملايين.
هل نحب الثوار؟ ليس دائمًا. فقد أهرقوا دموعنا. ودماءنا. كاسترو كمم الأفواه في كوبا. وأنار العقول بالتعليم. بالفكر. بالثقافة. عندما انقض كاسترو من الجبال على هافانا (1959)، لم يرَه الديكتاتور باتيستا. كانت العاصمة تعيش في الظلام بلا كهرباء. مجرد سراج باهت يضيء الحانة التي يحتسي فيها إرنست هيمنغواي آخر أقداحه قبل أن ينتصف الليل.
لماذا انتحر هيمنغواي في الستين. وعاش كاسترو إلى التسعين؟ لأن الروائي كتب الرواية حتى الثمالة. لم يعد يجد جديدًا يكتب عنه. لم تعد الشهرة تغويه. أو تغريه. كان على كاسترو أن يعيش أكثر. كان على الـ«كوماندانتي» أن ينجز أكثر للناس. لا لنفسه.
اختفت السائحتان الأميركيتان «كاديلاك» و«شيفروليه». وغابت معهما الزحمة. والصخب. والمتسولون. ركب المشاة المتعبون، من ملونين سود. وحمر. وسمر، «أوتوبيس» راؤول كاسترو. فغدت هافانا أكثر أمانًا. صفاء. نظافة، بلا جريمة. بلا مافيا. بلا سكارى.
غفر الكوبيون لكاسترو معتقلاته. وسجونه. مّحَّضُوه ثقتهم. وحبهم. فلم يأخذ منهم أجرًا. ظل الـ«كوماندانتي» فقيرًا. هم أغنى منه، فقد منحهم الفرصة لأن يمتلكوا بيتًا. ويفتحوا حسابًا مصرفيًا. ومطعمًا. مات عبد الناصر، رفيق كاسترو في الثانية بعد الخمسين. انتحرت العروبة. تقاعد العروبيون. وما زال ناصر معمرًا في الثامنة بعد التسعين. ارتكب ناصر وكاسترو الأخطاء. وبقيا على قيد الحياة لدى الملايين.
ما الفرق بين الرفيق كاسترو. والأخ معمر وصدام؟ كل منهم سواء في الديكتاتورية. لكن الحكم مسؤولية. لم يستخلص القذافي من الثقافة رأيًا. وموقفًا. ونهجًا. ولم يعرف صدام كيف يضمن لأمته سلام العراق وأمنه. حكم كاسترو كوبا 47 سنة. أقعده العجز والمرض (2006). فتخلى عن السلطة والحكم. سلم كوبا إلى نظامه. وشقيقه. لا إلى مواطنيه.
كم يبدو هذا العالم كئيبًا بلا سخرية كاسترو! من يضحكنا على الرأسماليين؟ من يتسلق أعمدة مصارف «وول ستريت»؟ من يلاكم ترامب؟ ويرثي هيلاري. ويعزي أوباما. ويصارع لاعب الجودو بوتين؟ يغادر كاسترو هذا العالم. حاول أن يغيره. وترك وراءه «غوانتانامو» سجنًا أميركيًا. لا أرضًا كوبية محررة. حتى الثوار يتقاعدون عن الثورة. يرحلون. يغيبون. يتركون العالم في قبضة النظام. وبشار. والبغدادي. وبوتين. والجولاني. وخامنه ئي. وروحاني.
كاسترو سيجار كوبي فاخر. لحية كثة. لباس «كاكي». صوت جهوري. وضمير ثوري. متظاهر مشاغب. صالح للزعامة. من ماركسي مستقل. وديمقراطي، أجبره غباء أميركا على التحول إلى مناضل حزبي شيوعي. وكأي شيوعي محترف فهو مثقف ذو مبادئ. وشخصية جدلية قوية. عين رفيقه تشي غيفارا حاكمًا لمصرف كوبا المركزي الذي كان بلا رصيد. ثم اختلف معه. أراد غيفارا ثورة عالمية. وحصرها كاسترو بكوبا. فهاجر غيفارا إلى غابات بوليفيا. فاغتالته الـ«سي آي إيه». وبكت بنات أميركا اللاتينية وسامته. لا مبادئه.
كاسترو مهاجر إلى كوبا من القرون الوسطى الإسبانية. تلقى في المدرسة تعليما كهنوتيًا. جيزويتيًا. في الجامعة، درس القانون. تخرج محاميا عن المتهمين الفقراء. تقاضى أجره خبزًا لا مالاً. انغمس في السياسة. فحمل السلاح. عرف المنفى في المكسيك. عاد مع أنصاره في البحر. في البر، هاجم معسكرات النظام. اعتقل. حوكم. 15 سنة سجنًا. لكن الديكتاتور باتيستا كان يخشى بلاغته الخطابية، أكثر مما يخشى سلاحه. فأفرج عنه. ثم ندم. فكرس حكمه. وأجهزته، لملاحقته وقتله. فمنحه شهرة عالمية.
وندم كاسترو أيضًا. ذهب إلى الولايات المتحدة. حاضر في التلفزيون عن الديمقراطية. والحرية. والانتخابات الدستورية. عندما استقر في هافانا، فر باتيستا. فاعتقل كاسترو 500 من أزلامه. نصب لهم محكمة. وأعد لهم سلفًا حكمًا بإعدامهم «لضرورة ثورية»!
برنامجه الثوري والاجتماعي تضمن مصادرة أراضي الإقطاعيين الأميركيين المستوطنين. وأمر بتخفيض عدد الدبلوماسيين الأميركيين. فقاطع الرئيس دوايت آيزنهاور شرب الشاي بالسكر الكوبي. فسحق كاسترو ثورة الطبقة الوسطى ضد الشيوعية والبروليتاريا الفلاحية. ففر مليون كوبي إلى الولايات المتحدة.
غزت مخابرات جون كيندي خليج الخنازير. فأحبطت الجماهير الكوبية الغزو الأميركي. منح كاسترو الكوبيين السود منازل الكوبيين الهاربين إلى الولايات المتحدة. طرد الرهبان والقساوسة الأجانب. أغلق كنائس الرهبان السود. فحرمه الفاتيكان من الغفران.
كوبا جزيرة محاصرة بالمياه التي حمتها من تكرار الغزو. ولم تحرم كاسترو من تصدير الثروة إلى أفريقيا. فابتكرت الـ«سي آي إيه» محاولات كاريكاتورية لاغتيال كاسترو: مواد كيماوية سرية لتشويه وجهه. وإتلاف شعر لحيته. وقلمًا مسمومًا لقراءته. وكتابته...
بنى كاسترو مشافي وعيادات طبية مجانية. أمم الصحة. والأطباء، فعاش الكوبيون سنوات أطول. أرسلهم إلى المدرسة والجامعة. فازدادوا علمًا. وثقافة. وأصيب هو بأمراض فتاكة. وخبيثة. واستعار منهم، بإيجار طويل، حريتهم في الكلام. والتعبير. والإعلام. والكسب الاقتصادي الحر.
عرف كاسترو قلة الراحة. فاستراح في صحبة النساء. أنجب ولدًا من زوجته الأولى ميرتا. وخمسة أبناء من زوجته الثانية داليا. وابنة واحدة تهاجمه من إذاعة كوبية في فلوريدا. درس نجله الأول في روسيا. وعاد بزوجته الروسية إلى هافانا. وتعهد شقيقه راؤول بالتنازل عن السلطة والرئاسة في العام المقبل، لكن لمن؟
نغادر نحن الناس العاديين هذا العالم، من دون أن نغير فيه. غير كاسترو فيه كثيرا. كاد بالصواريخ الروسية أن يشعل حربًا نووية. كسب في المساومة تعهدًا أميركيًا بعدم غزو كوبا. فزارها أوباما معترفًا بنظامها. ماذا يعني كاسترو لهذا العالم؟ «لأولئك الذين أحبوه فهو الأعظم. ولأولئك الذين كرهوه فهو الأسوأ» في رأي العاملة الكوبية العادية غراسييلا مارتينيز.