توفيق السيف

 «إصلاح المجال الديني» هو عنوان الندوة العلمية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في تونس نهاية الشهر الماضي. في الوقت نفسه تقريبا، عقدت في بيروت ندوة مماثلة حول الحرية الدينية والمواطنة. كلتا الندوتين وكثير من النقاشات المماثلة التي شهدناها هذا العام بالتحديد، تشير إلى انبعاث جديد لفكرة الإصلاح الديني، باعتبارها طريقا ضروريا لحل إشكالات العلاقة بين الثقافة العامة والسياسة في العالم العربي.
منذ منتصف عام 2011 كان واضحا أن الأجيال العربية الجديدة، تواجه عسرا في تحديد المسافة بين ما هو موضوع ديني يعالج في إطار الشريعة، وما هو متروك لعقول البشر وعلومهم. واحتمل أن هذا العسر قد ساهم في تأزيم العلاقة بين أطراف التيار الديني، وكذا علاقتها بالحكومات والقوى الاجتماعية الأخرى. نعلم أن الجدل المتواصل حول مشروعية السياسات ومعاني الوصف الديني، وواقعية الحل الديني لقضايا الحياة العامة، أمسى مبررا للتصنيف الحاد، ومن ثم الانقسام بين من يصنَّفون دعاة أو حماة للدين وناقديهم. وهو انقسام مشهود في المجتمعات العربية دون استثناء.
ثلاث من أوراق النقاش التي طرحت أمام ندوة تونس، ركزت على إشكاليات التعامل مع ما يسمى النص التأسيسي. الدكتور عزيز العظمة مثلا لاحظ أن جميع المحاولات الإصلاحية في المجال الإسلامي، توقفت عند مرجعية النص. نعلم أن التيار العام بين الفقهاء يتقبل فكرة الاجتهاد في النص، مما سيؤدي - بشكل طبيعي - إلى ظهور أفهام جديدة وأحكام جديدة. لكن واقع الحال يخبرنا أن التوقف عند النص، لم يؤد إلى عسر النص على الأفهام والتفسيرات، أي جعله موضوعا للاجتهاد المتحرر من قيود التفسيرات والأفهام السابقة. تاريخ الاجتهاد يكشف عن تحول أفهام السلف واجتهاداتهم الخاصة إلى مرجع بديل عن النص، بمعنى أن الفقيه لا يبحث الآن في النص القرآني أو النبوي بشكل مباشر، بل ينشغل في الحقيقة بكيفية فهم السابقين وتفسيراتهم له. وهذه التفسيرات والأفهام تتحول إلى إطار يوجه ويحدد عملية الاجتهاد. ولهذا فمن النادر أن تجد فقيها يخرج برأي أو تفسير، لم يرد نظيره في تراث السابقين. وقد أوردت في تعقيبي على ورقة الدكتور العظمة أمثلة صريحة عن اكتشاف فقيه ما لعيوب في اجتهاد السابقين، لكنه - مع ذلك - يميل في استنتاجه النهائي، إلى متابعة ما اشتهر أو ادعي الإجماع عليه. وأظن أن هذا من ثمرات الهيمنة القوية للنسق الفقهي التقليدي، التي قادت فعليا إلى عزل جميع الآراء الغريبة عن المألوف والمتعارف، بغض النظر عن أدلتها أو مطابقتها لروح التشريع.
المجال الديني، مثل سائر مجالات الحياة الأخرى، بحاجة إلى مواكبة التحولات الاجتماعية، واستيعاب التحديات الناتجة عن تطور حياة البشر وعلاقتهم وتفاعلاتهم. أظن أن جانبا من المشكلة يكمن في انكماش رجال العلم الديني، وما حدث جراء ذلك من تفارق بينهم وبين سائر الناس، في اللغة وأدوات الفهم والتعبير، ونوعية الهموم والانشغالات الذهنية. يركز رجال الدين على السلوكيات الفردية، ويريدون السلطة أداة ضبط للسلوكيات الفردية، لكنهم نادرا ما اهتموا بالمسارات المحركة للحياة العامة، مثل الاقتصاد وإنتاج العلم وحقوق الإنسان، وأمثالها.
أعتقد أن إصلاح المجال الديني لم يعد خيارا للمجتمعات العربية، بل أمسى لازما لاستعادة السلم الداخلي، فضلا عن ضرورته للحفاظ على مكانة الإسلام بوصفه موجها لحياة البشر في عالم سريع التغير.