صالح القلاب

استكْثر الغزاة الروس والإيرانيون، ومعهم نظام بشار الأسد المتآكل، وكل هذه الشراذم الطائفية المستوردة، على أنفسهم أنْ يحرزوا «نصرًا» لم يكتمل، ولم يتحقق بعد في معركة شرق حلب، فبادروا هُمْ وأعوانهم من بعض العرب «المؤلفة قلوبهم» لإقامة الأفراح والليالي الملاح والترويج الطافح الكيل لأنه يجب أن تُدرَّس هذه «الإنجازات» التي تحققت في أهم «الأكاديميات» العسكرية في العالم، وربما أنهم لم يذكروا «ويست بوينت» ولا «سندهيرست» ولا «ساتيدل»، ليس خجلاً، وإنما لأنهم لم يسمعوا بهذه «الأكاديميات»، ولم يعرفوا عنها شيئًا.
لأكثر من أربعة أعوام متلاحقة، بقي هذا التحالف الذي انضم إليه الروس لاحقًا في سبتمبر (أيلول) عام 2015، يرمي بكل ثقله، ويزج بكل إمكانياته، لتحقيق ولو تقدم محدود أو نصرٍ وهمي في هذه المدينة التاريخية التي سيخلّد بطولات وصمود أهلها التاريخ، وذلك مع أن الذين بقوا يدافعون عنها كل هذه الأعوام الطويلة لا يتجاوزون بضعة آلاف، ولم يتوفر لهم من السلاح سوى البنادق الآلية وبعض قاذفات الـ«آر بي جي» المقاومة للدبابات، وسوى شجاعتهم وإصرارهم على النصر أو الشهادة.
والأدهى أن هؤلاء الذين حققوا هذا الانتصار الذي لم يكتمل بعد في شرق حلب، والذي من الواضح أنهم لم يكونوا يتوقعونه، قد بادروا من خلال كل أبواقهم وإعلامهم إلى اعتبار أن ما حققوه يعتبر «انعطافًا تاريخيًا»!! في هذه الحرب، وفي هذه المواجهات المستمرة المتواصلة منذ انتفاضة درعا المباركة في عام 2011، التي كان بالإمكان أن تكون بداية تحول ديمقراطي متدرج وخطوة تلو خطوة، لو أن هذا النظام لم تكن تستبد به - ولا تزال - عقدة الرُّعب، ولو أنه بسبب غُرْبته الطويلة عن شعب من المفترض أنه شعبه، بات يخشى ويخاف من «ظلِّه»، وفقًا للاصطلاح الشعبي المعروف.
وهنا، فإنَّ ما يجب أن يقال، وتتم الإشارة إليه، هو أن انتفاضة درعا هذه ربما جاءت كشرارة أشعلت هذا الحقل السوري كله لأن هذا النظام الاستبدادي والدموي قد ردَّ عليها، بدل استيعابها والاستجابة لبعض مطالبها على الأقل، بالمدافع والصواريخ والرصاص، ولاحقًا بالطيران، نتيجة التأثر بمواجهات و«ثورات» الربيع العربي التي كانت قد بدأت في تونس وليبيا، وانتقلت إلى بعض الدول العربية، لكن في حقيقة الأمر إن هذه الانتفاضة التي تحولت إلى ثورة عظيمة متصاعدة، هي ابنة ما كان قد جرى في حماه الأولى، في نحو منتصف ستينات القرن الماضي، وما كان ارتكبه نظام حافظ الأسد في حماه الثانية في عام 1982. وهكذا، وخلافًا لاعتقاد الروس والإيرانيين، ولما يتمناه نظام بشار الأسد المتهالك والمتهاوي، فإن مواجهات شرق حلب هي مجرد معركة في حرب ضروس تدور رحاها الآن في سوريا كلها، وإنَّ هذه المعركة - أي معركة «الشهباء» - ستلد حروبًا ومعارك كثيرة.. والقادم سيكون بالتأكيد أعظم.
لقد كان انفجار درعا في عام 2011 نتيجة تراكمات متلاحقة خلفتها الانقلابات العسكرية التي كان أولها انقلاب حسني الزعيم في عام 1949، والتي تجاوزت الخمسة عشر انقلابًا، بعضها كان مصيره الفشل المبكر، وبعضها الآخر أدى إلى انقلابات جديدة، تبعتها وجبات الإعدام والتصفيات العلنية والسرية التي تمت وجرت قبل أول انقلاب بعثي في عام 1963. وبعده، وهنا ربما معظم العرب لا يذكرون أو لا يعرفون أن رفعت الأسد كان قد قاد حملة عسكرية على سجن تدمر الشهير، ردًا على محاولة الاغتيال التي تعرض لها شقيقه الرئيس حافظ الأسد في السادس والعشرين من يونيو (حزيران) عام 1980، قتل خلالها، كما تقول التقديرات، أكثر من ستمائة سجين، بعضهم من المنتمين لـ«بعث العراق»، وبعضهم من الإخوان المسلمين، والبعض الآخر من أحزاب أخرى، والأكثرية من الذين اعتقلوا اعتباطيًا، وزج بهم في زنازين السجون التي يصفها السوريون الذين مروا بها، واكتووا بنيرانها، بأن «الداخل إليها مفقود، والخارج منها مولود».
ثم ولعل ما يجب أن يقال، ردًا على أبواق هذا النظام، وعلى أعوانه وأتباعه من عرب وعجم، الذين يصفون هذه المعارضة السورية الباسلة حقًا بأنها مجموعة من الشراذم غير الموحدة، وغير القادرة على التشكل في إطار تنظيمي واحد، هو أنَّ الحياة السياسية في هذا البلد العربي العظيم قد جرى تدميرها تدميرًا كاملاً، بحيث إنها لم تشهد أي انفراج سياسي إلاّ في فترتين محدودتين؛ الأولى بعد الاستقلال مباشرة في العهد الأول للوطني الكبير شكري القوتلي، والثانية في الوصلة الثانية من حكم أديب الشيشكلي الذي كان قد أجرى انتخابات برلمانية في بدايات خمسينات القرن الماضي، شاركت فيها معظم الأحزاب السورية، وفاز حزبه (حزب التحرير العربي) بثلاثة وثمانين مقعدًا، في حين أن حزب البعث قد فاز بنحو عشرين مقعدًا.
إن هذا هو الأساس الذي حال دون أن تكون لهذه الثورة السورية، التي بالإمكان وصفها بأنها ثورة المستحيل، أداة رئيسية واحدة، فالشعب السوري لم يستطع التقاط أنفاسه منذ عام 1949، وحتى الآن والانقلابات العسكرية بقيت متواصلة ومتلاحقة، والقمع بقي مستمرًا في كل المراحل والعهود، حتى في زمن الوحدة عام 1958: «الجمهورية العربية المتحدة». وبالطبع حتى في عهد الانفصال، وفي عهد حزب البعث الذي لا تزال ترتكب كل هذه الموبقات والمجازر باسمه حتى الآن.
ولذلك، وكنتيجة لهذا كله، فإنه من الظلم إلصاق كل هذه التهم التي يقف وراءها الروس والإيرانيون وأجهزة نظام بشار الأسد الاستخبارية التي يقال إن عددها يتجاوز السبعة عشر جهازًا، بالمعارضة السورية التي كان أمرًا عاديًا وطبيعيًا أن تكون ولادتها عسيرة، وأن تكون هناك كل هذه التعددية التي تشوب بعض أطرافها الفوضى، وذلك مع أنه كانت هناك محاولات جادة منذ البدايات لضمان انضواء كل هذه الفصائل والتنظيمات، باستثناء ما يعتبر منها إرهابيًا، في إطار واحد. وحقيقة ورغم بعض ما يقال، فإن هناك الآن الائتلاف الوطني والجيش الحر والهيئة العليا للمفاوضات، وإن هناك الآن محاولات جادة للتلاؤم مع متطلبات المرحلة الجديدة سياسيًا وعسكريًا، وانضواء إنْ ليس كل هذه المجموعات فأغلبها في إطار واحد له قيادة واحدة وقوات عسكرية موحدة ومرجعية تكون البديل الجاهز لهذا النظام، خصوصًا في المرحلة الانتقالية المفترضة، وفقًا لقرارات «جنيف1» المعروفة.
إنَّ ما جرى في شرق حلب هو مجرد معركة لا شك في أنها في غاية الأهمية، لكنها ليست بالصورة التي بادر إلى ترويجها «أصحابها»: الروس والإيرانيون، ومعهم نظام بشار الأسد المتهالك، الذين اعتبروها «منعطفًا تاريخيًا» بالنسبة لهذه الحرب التي بقيت مستمرة، وبين كرٍّ وفرٍّ، على مدى السنوات الماضية منذ عام 2011، وهنا فإن ما تجب الإشارة إليه هو أولاً: أن المواجهات في مناطق أخرى من هذه المدينة لا تزال مستمرة ومتواصلة، وثانيًا: هو أن القتال لا يزال محتدمًا في كثير من المناطق السورية، وثالثًا: هو أن المعارضة بدأت الاستعداد للتحول إلى حرب «الغوار» التي يسميها البعض حرب العصابات، والتي حققت للشعوب التي اختارتها الانتصارات الحاسمة التي أرادتها.