هدى الحسيني

كأن الفوضى والعنف والقتل والتهجير صارت سمة الوضع الطبيعي لبعض بلدان الشرق الأوسط وبالذات العربية منها، وبسبب تقاطع الاضطرابات قد ينغمس هذا العام بالمزيد من التخبط، خصوصًا مع استمرار هبوط أسعار النفط، والاضطراب الاقتصادي في روسيا، ووحشية تنظيم داعش الذي طالت مخالبه وتكاد تصير عالمية.


في لقاء مغلق مع أحد الاستراتيجيين الغربيين رأى أن الشرق الأوسط مليء نفطيًا، فيما الأسعار العالمية تنخفض، مما يدفع بعض الدول إلى العمل مع محركات فارغة فتهرع إلى تغطية العجز (أعطى مثلاً: العراق، الجزائر، فنزويلا، وليبيا) رغم أن نفطًا خامًا إقليميًا يستعد لدخول السوق.


لمدى 4 سنوات عملت الولايات المتحدة وإيران على إزالة جبل الجليد بينهما، وإزالة الكثير من القضايا الشائكة، فكان الاتفاق النووي؛ إذ في 16 من الشهر الماضي، وبعد 6 أشهر من التدقيق، أنهى المفتشون الدوليون مهمتهم، وتأكدوا من امتثال إيران للشروط، فحصلت على 100 مليار دولار من أموالها المجمدة، كذلك على الحق باستئناف تصدير النفط دون أي عائق. وتتوافق الآراء خارج إيران بأنها ستتدبر أمر تصدير 500 ألف برميل يوميًا إلى السوق وربما 600 ألف، لكن حتى هذا سوف يحتاج إلى سنة أو ربما إلى 18 شهرًا. وكانت إيران قالت إنها تخطط لإضافة مليون برميل يوميًا، إلا أن هذا يعتمد على مسألة النقد وسوق الحصص.


وحسب الخبير الاستراتيجي، فإنه لا يتوقع شهر عسل أميركيًا - إيرانيًا رغم «كل مقالات ديفيد إغناتيوس». فقد اعتقلت إيران 10 بحارة أميركيين دخلوا عن طريق «الخطأ» المياه الإقليمية الإيرانية. المرشد الأعلى هنأ الضباط الإيرانيين وزين صدورهم بأوسمة النصر، وكان ذلك قبل وبعد تطبيق الاتفاق. وكما كانت إيران تفعل في بيروت زمن الحرب الأهلية، وبعد أن أطلقت سراح 4 أميركيين في عملية تبادل سجناء مع أميركا في 15 من الشهر الماضي، أقدمت ميليشيا موالية لإيران على اختطاف 3 أميركيين في بغداد، ولم يستطع المسؤولون الأميركيون تصديق أعينهم. ويبدو أن الانتخابات الإيرانية المقبلة هذا الشهر ستشرع باب المجالس المختلفة للمتشددين بعد منع الإصلاحيين حتى من خوضها.


ويقول الخبير الاستراتيجي الغربي: «توقعوا سنة توتر شديد ما بين إيران والسعودية والولايات المتحدة»، أيضًا توقعوا سنة أخرى من انخفاض أسعار النفط. توقعات ازدهار صادرات النفط الإيراني عامل لاستمرار وفرة النفط الخام هذا العام، ثم هناك احتمال جدي بركود عالمي خارج الولايات المتحدة. الصين التي كانت تلتهم بشراهة السلع الأساسية في العقد الماضي، سيكون النمو الإجمالي لديها ثابتًا عام 2016، يوازيه نمو فاتر من جهتها في الطلب على النفط، وبالتالي قد ترتفع أسعار النفط في نهاية عام 2016، لكنها ستبقى تتراوح ما بين 25 و45 دولارا للبرميل الواحد، وإنْ كان الاعتقاد الأكثر احتمالاً أنها لن ترتفع عن السعر الحالي 30 دولارا. ويتوقع الخبير الاستراتيجي الغربي أن تبقى حنفية النفط في السعودية مفتوحة على مصراعيها، وتنتج نحو 10 ملايين برميل يوميًا: «لن تصغي إلى استنجاد الحفر الأميركي أو التسريبات الروسية. السعودية مستمرة في سياستها النفطية، وإيران سوف تتضرر أكثر بسبب الأسعار المنخفضة، لأن احتياطيها النقدي أقل حجمًا».


ويلفت إلى تطور جذري في روسيا وسياستها السورية. ينصح بعدم تصديق المظهر الهادئ للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فشل الكرملين في تقييم كارثة النفط وتداعياتها، على عكس ما فعلته السعودية، لذلك هناك تهديد جدي كبير للاقتصاد الروسي. ويحذر الروس من أن بلادهم قد تستنفد الاحتياطي النقدي هذا العام، الأمر الذي سيؤدي إلى تضخم لا يمكن السيطرة عليه فيطيح أكثر بقيمة الروبل ويدمر الروس العاديين.


يقول: «هناك دول مثل أفغانستان واليونان تغض النظر عن الفوضى من حولها رغم كل التوقعات السلبية تجاهها، على أساس أن الدول نادرًا ما تنهار». قد يكون هذا الوضع يناسب تلك الدول «غير المؤثرة» لكن «روسيا لا ترى نفسها واحدة من تلك الدول». في الواقع فإن الأزمة الأوكرانية لها تفسير واحد هو إصرار روسيا على أنها قوة إقليمية وتطالب باحترام عالمي. ثم إن الرئيس بوتين يحب أن يذكره العالم – لاحقًا - بأنه استعاد عظمة روسيا ويستحق لقب «فلاديمير الكبير». لذلك، فإن أشخاصًا مثل بوتين يفتعلون الكثير من الصراخ العالي، يهددون وحتى يقومون بغزو ما، لكن يتوقفون قبيل أن يدفعوا البلاد بأكملها إلى الهاوية «أي حسب قاعدة الهاوية (Precipice Rule)، حيث تقف روسيا الآن».


هناك وقت للصراخ وتصفية الحسابات، وهناك وقت لإجراء الصفقات. ويبدو أن الوقت حان للصفقات. لكن أي صفقة يتجه نحوها بوتين؟ يقول الخبير الاستراتيجي: «إننا نعرف ما يريد، لكن كبداية سيقترح أن يوفر على الغرب الاحتراق بالنيران السورية عن طريق إزاحة الأسد الذي صار يعتمد على الروس أكثر من اعتماده على الإيرانيين للبقاء في السلطة. وفي مقابلة نشرت في 12 من الشهر الماضي، عبر بوتين عن استعداده لإعطاء ملاذ للأسد، وقد يفعل بوتين هذا عن طريق البحث لدى الطائفة العلوية التي ينتمي إليها الأسد عن شخص تثق به أجهزة الاستخبارات، ولاؤه مختبر، ويكون قادرًا على الإمساك بالأمور كلها». يعتقد الخبير الاستراتيجي الغربي أن السعودية قد توافق على هذا الترتيب الذي يعني رحيل الأسد الذي صار حتى عبئًا على شعبه وعقبة أمام السلام في سوريا. أما بالنسبة إلى إيران فهذا لا يمثل في نظرها الصفقة المثالية، لكنها قد تضطر لقبول الإجراءات التي تتضمنها الصفقة، ولجهة الولايات المتحدة فإنها ستقبل طالما أنه من المقرر إجراء انتخابات في سوريا في غضون 18 شهرًا، وكان الروس قالوا أخيرًا إن اللاجئين السوريين يجب أن يشاركوا في الإدلاء بأصواتهم.


في المقابل، حسب الخبير الاستراتيجي، فإن بوتين يطالب بعدم التدخل الغربي في أوكرانيا بحيث لا تتم دعوتها للانضمام إلى المجموعة الأوروبية، أو الحلف الأطلسي، كما أنه يريد مكانًا لا منازع له فيه في الأجواء السورية، وبطبيعة الحال رفع كل العقوبات الاقتصادية. وكانت فرنسا لمحت الأسبوع الماضي إلى إمكانية رفع هذه العقوبات عن روسيا الصيف المقبل.. «وهكذا عندما تعود أسعار النفط إلى الارتفاع لأنها يجب أن ترتفع في نهاية المطاف، فإن روسيا تكون في وضع يمكن ترجمته فورًا إلى نهضة اقتصادية وراحة أكثر للشعب الروسي». وحسب هذه الخطة تحافظ روسيا - بوتين على احترام الذات، بعد أن تحصل على كل شيء من دون أن تتخلى عن شيء من الناحية الجيوسياسية.


ويعتقد الخبير الاستراتيجي أن الغرب، ونظرًا لسجله المتواضع في التفاوض مع بوتين، يمكن أن يحقق له هذه الصفقة. الأسد ليس بالسعر المرتفع، وموسكو منذ فترة تختبر ردود الفعل بالنسبة إلى التخلي عنه، وتعود لتنفي، لكن هذا يعني أن مصيره صار مطروحًا. وهكذا فإن ترتيبًا أفضل في سوريا للغرب من شأنه أن يمنح بوتين نفوذًا مستمرًا في سوريا، ويسمح للغرب بأن يطلب من بوتين الانسحاب من شرق أوكرانيا.


ونفوذ الغرب لفرض هذا الطلب والتوصل إلى ترتيب مع بوتين سببه الوضع الاقتصادي السيئ في روسيا، خصوصًا أن الأسبوع الماضي شهد انهيارًا جديدًا للروبل.. «هذه هي فرصة بوتين لرفع العقوبات عن روسيا، والغرب سيكون كريمًا معه، مكافأة له، سيسمح له بالإبقاء على شبه جزيرة القرم»!
إذا نظرنا من كل الزوايا، إن من ناحية «داعش»، أو من ناحية اللاجئين السوريين الذين يتدفقون على أوروبا، أو من ناحية التدخل الروسي وارتباط ذلك بأوكرانيا، نرى أن المسألة السورية صارت عالمية وارتباطاتها متشعبة. إنها لعبة «دومينو» معكوسة، حل كل قطعة مرتبط بإيجاد حل للقطعة الثانية. إنها قصة طويلة، لكن كما يبدو بدأ كل طرف يُخرج «الأرنب» من كمه ويضعه على طاولة المفاوضات، المهم ألا يفلت أي «أرنب»!

&