عبد المنعم سعيد


بات من المألوف التفرقة ما بين «الإرهاب» و«الإرهابيين»، الأولى فضلا عن كون أنها «فعل» فهي في الأصل «فكرة» تعود في أصولها إلى الفكر السياسي للخوارج كما أسلفنا من قبل؛ والثانية فإنهم رجال الحركة الذين يحولون، أو يحاولون، تحويل الأفكار إلى واقع. والشائع بين المراقبين والمحللين أن النجاح قادم في التعامل مع الإرهابيين الذين مهما كبرت قوتهم، فإن توازن القوى يظل دوما لصالح الدولة، ما لم تكن الدولة قد انهارت بالطبع. ولكن النجاح نفسه ليس قائما بالنسبة للإرهاب، حيث تظل الفكرة قوية ونفاذة، وفيها من الدين ما يلهب الحماس، ومن العقيدة ما يلزم التضحية. شيئا من ذلك يمكن تطبيقه على الداعشيين والداعشية، لأن هذه وهؤلاء، في الأول والآخر، من الخريجين لمدارس الإرهاب المختلفة، أحيانا بالمعنى الحرفي للكلمة حينما كانت المنظمات «الداعشية» مجرد انشقاق في تنظيم القاعدة الإرهابي الشهير. الفارق أحيانا يرصد في درجة التشدد والغلو، وأحيانا أخرى في درجة الجهل والحماقة، وأحيانا ثالثة في درجة استبعاد «السياسة» في الحركة الاستراتيجية وإعطاء الأولوية الدائمة للعمل العسكري، والقسوة، ونشر الخوف والدعوة من خلال تكنولوجيات متقدمة؛ ومؤخرا في سبق من سبقهم في الإرهاب بغية السيطرة والهيمنة على دولة «الخلافة» التي خرجت من الأفكار إلى الواقع، أو هكذا يعتقدون.


الجهد الحالي في مقاومة الداعشيين رغم حركته البطيئة، فإنه يحرز تقدما لم يكن متصورا منذ عام نظرا لاختلاف المصالح والأهداف. ولكن التدخل الروسي المباشر، وعلى الأرض، خلق نقطة فارقة، ليس في سياسات الشرق الأوسط فقط، وإنما السياسة العالمية أيضا. من الناحية العسكرية تنكمش «داعش»، والمرجح أن الجهود السياسية الحالية لوضع نهاية للحرب الأهلية السورية، والأخرى الليبية، سوف تصل إلى عزل دولة «داعش» بين سوريا والعراق، وحرمان «داعش» من بديل نشط على الأرض الليبية. لن تكون المسألة سهلة بالطبع، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد بديل آخر لدى القوى الإقليمية والدولية سوى القبول بمزيد من الإرهاب، والمزيد من اللاجئين، والمزيد من إهانة الدين الإسلامي، وكل ذلك مرفوض. ولكن ذلك كله في جانبيه العسكري والسياسي لا يحل المشكلة الأصلية المتعلقة بالفكرة «الداعشية» ذاتها التي تجند المجندين، وتأتي بهم من أركان العالم، وتدفعهم دفعا إلى قتل البشر من كاليفورنيا إلى باريس.


الأستاذ علي بكر الباحث في شؤون الإسلام السياسي قام بحصر مجموعة الأفكار «المركزية» التي يدور حولها الفكر الإرهابي، والتي تمثل «القاسم المشترك» بينها بما فيها، بل وفي قلبها الفكر الداعشي، ووجدها ثماني أفكار: الحاكمية، والجاهلية والتكفير، والانعزال والهجرة، والولاء والبراء، ووجوب تغيير المنكر، ووجوبية «الجهاد»، وحتمية المواجهة، ووجوب الاعتداء على الأجانب وأهل الكتاب بالداخل. هذه الأفكار تراكمت عليها عمليات كبيرة من تشويه أصول الدين والعقيدة إلى درجات مرعبة، حتى باتت بعيدة عن كليهما كل البعد، وأكثر من ذلك أصبحت سلاحا للإرهاب وبث الخوف والرعب في أفئدة المؤمنين، ربما كما لم يحدث لا في التاريخ الإسلامي، ولا في التاريخ البشري. المدهش أن تفنيدها دينيا كما جاء في الدراسة لم يحتج إلى الكثير من التأصيل والرجوع إلى أصول القضايا وليس فروعها؛ وأحيانا لم تكن هناك حاجة إلا إلى معرفة دقيقة باللغة ومعان الكلمات، كما كانت عند نزول الرسالة.


ولا توجد نية هنا إلى تناول هذه الأفكار مرة أخرى، وإنما ربما يكون من المفيد أن نضيف إليها أمرا مهما وهو «التاريخ» الذي تمت فيه إعادة صياغة أغلب هذه الأفكار من خلال ما يبدو وكأنه مؤامرة كبرى مستمرة ضد المسلمين والدين الإسلامي جرت من خلال مصفوفات من الأعداء الذين وجب قطع رقابهم. التاريخ هنا دائما في حالة انقسام حاد بين أهل الخير في ناحية حيث يوجد الإرهابيون ورفاقهم، وجماعة الشر في ناحية أخرى، والصراع بينهم دائم وحتمي. هذه الفكرة تخلق حالة من العزلة العالمية للدول الإسلامية، وتضعها بعيدا عن مراكز التطور، ومناطق التأثير؛ وفي كل الأحوال تضع المسلمين والدين الإسلامي في موضع الشكوك والهواجس.

وفي عالم معقد بما فيه الكفاية نتيجة تفاعلات التجارة والسفر وثورات التكنولوجيا الكبرى، فإن مثل هذه الحالة تولد فورا نوبات محافظة ورجعية، بل وفاشية، تجعل من الإسلام والمسلمين هدفا لها. ويكفي الآن مراجعة ما حدث في الولايات المتحدة إبان الانتخابات التمهيدية للحزبين الجمهوري والديمقراطي، لكي نجد نمو هذه التيارات بسرعة مخيفة؛ وكذلك الحال في الدول الأوروبية التي حاول بعضها التعاطف مع حال اللاجئين من الدول العربية، ولكنها ما لبثت أن تراجعت بسرعة، بعد أن وجدت أن بعضا من هذه الأفكار تسللت إلى صفوف الهاربين من ساحات الدم والدمار في دول الشرق الأوسط العربية والإسلامية.


ولكن هذه الأفكار كلها تحتاج ليس فقط إلى التفنيد، وإنما أيضا إلى طرح الأفكار الصحيحة ووضعها في سياقها التاريخي الصحيح. فما حدث خلال العقود الماضية، ربما منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، أن فراغا فكريا هائلا قد ألم بالمنطقة كلها. وفراغ الأفكار، مثله مثل كل أشكال الفراغات، لا بد من أمر آخر يقوم بملء هذا الفراغ ويحتل كل المساحات الشاغرة فيه. كان ذلك ما جرى في معظم الدول العربية والشرق أوسطية، وكان الثمن فادحا بعد ذلك عندما بدأت عمليات الاغتيالات، والعنف المنظم، وفي النهاية تدمير الدول سواء كان ذلك من خلال ركوب موجات ثورية، أو احتكار حالات طائفية، أو الوقوف إلى جانب كل ما يقسم، وكل ما يمزق.

ولذا فإن المطالبين بتجديد الفكر الديني عليهم أن يكونوا في مقدمة الثورة على الإرهاب، والداعشية، وليس فقط الوقوف أمام الإرهابيين والداعشيين. فالمعركة هنا وهناك متصلة لأن الفكر هو الذي يجند ويجذب ويخلق حالات من الجنون يقوم فيها بعض المتهوسين بخوض معاركهم الخاصة التي تفرز مذابح كبرى. ملء الفراغ الفكري معركة كبرى تحتاج إلى جهود كبرى، ليس فقط بحثا عن الحقيقة في الدين والملة والتاريخ، وإنما أيضا في كيفية وصول هذه الأفكار إلى الجماهير المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها. الأمر ببساطة يحتاج لغة جديدة أكثر بساطة وبعدا عن التقعر؛ باختصار لغة إنسانية تعرف كيف تأخذ بالمضمون الإنساني عبر وسائل اتصال حديثة لكي تؤثر في أجيال تعبث برؤوسها قوى شيطانية تدربت على مهارات سيكولوجية تعرف كيف تصل إلى أجيال تتحرق شوقا إلى أفكار جديدة. في النهاية فإن هزيمة «داعش» ممكنة، بل إنها مرجحة، ولكن القضية هي أنها لا يمكن أن تهزم «داعش»، دون هزيمة الداعشية!