توفيق السيف


لطالما تصارع السياسيون ودارسو العلوم السياسية حول العلاقة بين الحرية والعنف. يعتقد الدارسون أن المزيد من الحريات الشخصية والمدنية يؤدي لتقليص احتمالات العنف السياسي والاجتماعي. بينما يحتج السياسيون بالأمثلة الواقعية التي تظهر أن التيارات المتطرفة بلغت أوج ازدهارها مع انتشار الإنترنت وأنظمة الاتصال الحديثة، وهي أبرز قنوات التعبير الحر في عالم اليوم. وفي الأسبوع الماضي نقل عن شركة «تويتر» أنها جمدت 125 ألف حساب يشتبه في صلتها بتنظيم داعش أو تشجيعها للإرهاب. وتنشر الصحافة الدولية بين حين وآخر، تقارير عن صراعات قانونية ساخنة بين مختلف الحكومات والشركات الأبرز في خدمات الإنترنت، مثل «غوغل» و«فيسبوك» وأمثالهما، محورها هو ضغط الأولى على الثانية لكشف معلومات خاصة بمستخدميها الذين تشتبه الحكومات في صلتهم بمنظمات إجرامية أو إرهابية.


التيارات المتطرفة تستفيد من هامش الحرية المتاح، مثلما يستفيد منها عامة الناس. هذه حقيقة لا مراء فيها. وهي - على الأرجح - أقوى الحجج التي يتمسك بها دعاة الاستبداد. لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد. فقد لاحظنا عددا معتبرا من مناصري الحريات العامة يدعمون أيضًا فكرة تقييد حرية التعبير، أو تشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي، لنفس المبرر.


يعرف الباحثون هذه الحقائق المزعجة على نحو دقيق. بل ويعرفون أيضًا أنها أقوى الحجج في سلة الطرف الآخر. لكنهم - مع ذلك - لا يرونها كافية للتخلي عن اعتقادهم في أن الحرية علاج فعال للتطرف، وما قد يترتب عليه من ممارسة للعنف أو تسويغ للعنف. هؤلاء الباحثين ليسوا ممن يغفل الحجج، أو يغض الطرف عن الحقائق الماثلة على أرض الواقع. ومن هنا فإن إصرارهم على رأيهم، ليس مجرد رغبة في إثبات وجهة نظر أو نفي أخرى، بل هو ثمرة لفهم دقيق، وإن كان من زاوية مختلفة، لمشكلة التطرف وسبل علاجها.


لتوضيح الفكرة يمكن القول إن الخلاف بين السياسيين والباحثين يكمن في ترتيب الأولويات. يميل السياسيون إلى علاج المشكلة بعد ظهورها. ويتعلق هذا خصوصا بالمشكلات التي يستدعي علاجها تكلفة سياسية أو مادية، لا يرغبون عادة في دفعها، طالما لم يكونوا مضطرين لذلك. بينما يوجه الباحثون اهتمامهم بالدرجة الأولى إلى خطوط الانكسار في النظام الاجتماعي، أي تلك المسارات والسياسات والتحولات، التي يعتقدون أنها ستولد أزمة أو سيترتب عليها ظهور توترات، تؤثر - قليلا أو كثيرا - على استقرار النظام الاجتماعي. ومن هنا فهم يعتقدون مثلا أن قلة الخيارات المتاحة أمام الناس، سيما الأجيال الجديدة، تشكل عاملا مهما في توليد التوتر، على المستوى الفردي والجمعي.


قلة الخيارات هي إحدى تجليات انعدام الحرية، أو ضيق مساحات الحرية في المجال العام. بعبارة أخرى فهم يرون أن التوتر الداخلي يأتي أحيانًا مما سميته في مقال الأسبوع الماضي «المنغلقات»، أو نقطة اصطدام الإرادة بالعجز. وأشير هنا خصوصا إلى العجز الناتج عن كثرة القيود الرسمية أو الاجتماعية على مبادرات الأفراد، الأمر الذي يقلص الخيارات المتاحة في المجال العام. أظن أن انخراط بعض المتطرفين في أعمال العنف، كان سببه الرئيسي ندرة الخيارات التي وجدوها أمامهم، أو عدم إدراكهم للخيارات البديلة القابلة للاستثمار. ربما كان بوسعنا الحيلولة دون انزلاق هؤلاء الشباب إلى العنف، لو فتحنا الكثير من الأبواب، أي الكثير من الخيارات أمامهم، كي لا يصبح ذهنهم مشدودا إلى طريق واحد هو الانتحار.
&