أحمد عبد المعطي حجازي

حين ننظر فى الصور التى تعاملنا بها مع اللغة خلال القرنين الأخيرين، يتبين لنا أننا بدأنا بصورة وانتهينا بعكسها. بدأنا بإحياء لغتنا الفصحي. وها نحن نتنكر لها ونتخلى عنها!

فى القرن التاسع عشر لم يكن أمامنا طريق للخروج من عصور الظلام والانحطاط التى تردينا فيها تحت حكم الغزاة والطغاة الأجانب الذين توارثوا بلادنا أكثر من ألفى عام، لم يكن أمامنا طريق للخروج من هذه العصور والدخول فى عصر النهضة إلا طريق الفصحي. كان مشروع النهضة نقلة جوهرية ننفصل بها عن تاريخ خسرنا فيه كل شيء، وندخل فى تاريخ جديد نحقق فيه مالم نحققه من قبل. وإذن فقد كانت حاجتنا ملحة للغة مثقفة لها قوانينها ولها تراثها. ولم يكن أمامنا ونحن نبحث عن هذه اللغة إلا العربية الفصحي.

&كانت التركية هى لغة الحكام الأجانب الذين كنا نعمل بكل ما نملك من طاقات لنتحرر ونحرر بلادنا منهم ومن لغتهم، التى لم تكن تمثل لنا إلا الهمجية والتخلف والطغيان. ولهذا كانت موضوعا لسخريتنا التى استوحاها صلاح جاهين فى كاريكاتور لغوى لحنه سيد مكاوى فى كاريكاتور موسيقي:&

تركى بجم/ سكر انسجم/ قاظ شقلباظ اتغاظ هجم/ أمان أمان تركى بجم!

&وكانت العامية المصرية لغة حياة يومية تصلح للاتصال والتفاهم فى الأمور العملية البسيطة ولاتفى بالحاجة إلى التفكير والبحث والاكتشاف ومراجعة الماضى وتصور المستقبل. وقد تعلمنا من حملة بونابرت أن العقل هو كلمة السر التى نخرج بها من الماضي، وأن العلم هو كلمة السر التى ندخل بها العصور الحديثة، لأننا بالعقل نعرف أن الزمن يتقدم، وأن المجتمعات تتغير وتتطور. وبالعلم نكتشف الطبيعة، ونكتشف أنفسنا، ونتوافق مع قوانين الحياة، ونستجيب للتطور. ولأننا أصبحنا فى حاجة ملحة للعقل والعلم فضلا عن حاجتنا الملحة لاستعادة استقلالنا وحريتنا فقد أصبحنا فى أمس الحاجة للفصحي. لأن الفصحى لغة مثقفة لها تاريخها مع العقل والعلم. فإذا كان هذا التاريخ قد أصبح ماضيا فنحن نستطيع إحياءه عن طريق الاتصال بالآخرين الذين سبقونا إلى العقل والحرية، لكن بشرط، هو أن نخرج هذه اللغة الفصحى من عصور الظلام، ونعلمها أسماء العصور الحديثة وننفخ فيها من روحها ونحولها إلى فصحى حديثة باستطاعتها أن تتحدث فى أمور الدنيا كما تتحدث فى أمور الآخرة، وأن تفهم فولتير وروسو، كما فهمت أفلاطون وأرسطو، وأن تضيف لما قدمه البيرونى وابن سينا وابن الهيثم وغيرهم فى الطب والهندسة والرياضيات والفلك ما وصل إليه كوبرنيك، وجاليليو، ونيوتن وغيرهم من علماء العصور الحديثة. وهكذا يجب أن نفهم معنى الإحياء.

&الإحياء ليس ابتعاثا من قبور الماضى كما يظن السلفيون ومن هم على شاكلتهم، وليس حياة مكرورة يكون فيها الحاضر مجرد زى من أزياء الماضي، وإنما الإحياء حياة جديدة أو هو بالتعبير الأوروبى ميلاد جديد ومرحلة متطورة فى عمر ممتد، تشتد الحاجة إليها ـ إلى هذه المرحلة ـ وتتهيأ الظروف لاستقبالها.&

وهكذا بدأت النهضة المصرية بالإحياء، وولدت الفصحى الجديدة مع ميلاد مصر الجديدة التى بدأت تطلب لنفسها الاستقلال والديمقراطية. فقد تضمن المشروع الذى أقره مجلس شورى النواب لتنظيم عمله وأرسله إلى الخديو إسماعيل عام 1879هذا النص:&

«ًاللغة الرسمية التى يلزم استعمالها فى المجلس هى اللغة العربية». وهكذا ولدت الفصحى الجديدة مع أول برلمان عرفته مصر، ومع كتابات الطهطاوي، وقصائد البارودي، وخطب عبدالله النديم، وألحان سلامة حجازي، وفى القرن التاسع عشر كان الطلاب المصريون يتعلمون الطب والهندسة والفلك والقانون بهذه الفصحى الجديد، التى شبت وترعرعت فى دار العلوم ومن بعد فى الجامعة المصرية، واغتنت بما قدمه فيها اللبنانيون والسوريون والعراقيون والتوانسة المحافظون منهم والمجددون. وفى نهاية القرن التاسع عشر بدأ التفكير فى إنشاء مجمع يحتضن اللغة الفصحى ويزودها بما تحيا به وتزدهر وتنتشر. حتى إذا طلعت شمس القرن العشرين أصبحت الفصحى الجديدة قادرة على أن تضيف لعصورها الذهبية التى مضت عصرا جديدا دخلت فيه ميادين لم تدخلها من قبل، وعرفت أشكالا فى الأدب والفن لم تعرفها من قبل. وفى هذا العصر الجديد تألقت أسماء العشرات من الشعراء والقصاصين والمسرحيين والنقاد والصحفيين والإذاعيين والمترجمين المصريين وغير المصريين. فإذا كان هذا هو ما حققته الفصحى مع النخبة المصرية المثقفة فى مجالات الإبداع الأدبى والفكري، فما الذى حققته باعتبارها لغة لكل المصريين وليس للمثقفين وحدهم؟ ما الذى أنجزته فى سعيها لتصبح لغة اتصال واجتماع، إضافة لكونها لغة تفكير وإبداع؟ والحقيقة أن السؤال يشير إلى مسألة الفصحى والعامية ويتطرق إلى مستقبل العلاقة القائمة بينهما. هل يكون هذا المستقبل حربا متصلة تقضى فيها واحدة منهما على الأخري؟ أم يكون تواصلا وتفاعلا تأخذ فيه العامية من أدب الفصحى وثقافتها ومعجمها الحافل وأساليبها المتنوعة، وتأخذ الفصحى من العامية مرونتها وتحررها وصلتها الوثيقة بحياة المصريين ونشاطهم اليومى وتقاليدهم الموروثة؟

&والكلام يطول فى هذه المسألة التى لا تطرح دائما بصورة موضوعية. لأن علاقتنا باللغة وأن كانت علاقة مشتركة فهى ملونة دائما بلون شخصى تحدده البيئة والدراسة والقدرة والمهنة.

&أستاذ اللغة العربية لابد أن يكون له فى هذه المسألة رأى يختلف عن رأى كاتب الأغانى الذى حقق شهرة وجمع ثروة من الكتابة بالعامية. والسياسى أو الإعلامى الذى يستخدم اللغة ليخفى الحقيقة ويخدع الجمهور، له فى العامية والفصحى كلام يختلف عن كلام الذى يستخدم فى حديثه لغة واضحة محددة تنقل عنه وتحسب عليه. فإذا نظرنا للمسألة نظرة موضوعية تحررنا فيها بقدر الإمكان من ضغط المصلحة الخاصة والتزمنا مصلحة الجماعة وحقها فى لغة قومية حية ومثقفة تحفظ لها تراث الماضي، وتفتح أمامها آفاق المستقبل، وتلبى مطالبة وتتحمل أعباءه ـ إذا نظرنا للمسألة هذه النظرة فسوف نرى الحقائق التالية:

&ليس صحيحا أن الفصحى هى الأصل الذى ضلت عنه ألسنة العامة فى عصور الانحطاط، فنشأت العامية التى يعتبرها البعض لهجة منحطة يجب أن ننبذها ونعود إلى الأصل الرفيع المقدس المتمثل فى الفصحي. الحقيقة أن اللهجات العامية هى الأصل، أو هى امتداد للأصل المتمثل فى لهجات القبائل العربية المختلفة، وأن الفصحى بالنسبة لهذه اللهجات الأصلية لهجة جديدة مثقفة شكلتها حاجة العرب لأن يجتمعوا فى كيان واحد عبرت عنه الدولة التى قامت بعد ظهور الإسلام، ولم يكن لهذه الدولة وجود من قبل.&

معنى هذا أن الفصحى هى التى تطورت عن العامية وليس العكس. وبهذا يكون المستقبل أمام الفصحى مفتوحا لكن دون أن تكون حياة الفصحى فى المستقبل مشروطة بموت العامية. بالعكس، حياة الفصحى مشروطة بحياة العامية. لأن العامية بالنسبة للفصحى أصل. لكن الأصل دائما قاصر، لأنه تعبير عن زمن مضى وتلاه زمن جديد تطور فيه الأصل وتشكل على نحو يلبى حاجات الحاضر والمستقبل، كما تطورت اللهجات البدوية فى العربية الفصحي. فالعربية الفصحى هى الطور المتحضر المتقدم المؤلف من لغات العرب ولهجاتهم، وإذن فهى لغة المستقبل. والدليل على ذلك استجابتها لحركة الإحياء. وهل هناك دليل على الحياة أقوى من هذا الدليل؟

&الفصحى لم تكن فى هذه الحركة مجرد موضوع للإحياء. لم تكن مجرد جسد أعدناه للحياة من جديد، وإنما كانت روحا تحققت بها النهضة وعادت بها مصر للحياة، وإلا فلنتخيل أنفسنا بدون الفصحي. كيف نكون بدون الطهطاوى ومحمد عبده والبارودى وشوقى وحافظ وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل؟ كيف نكون بدون طه حسين والحكيم ونجيب محفوظ ولويس عوض وألفريد فرج والشرقاوى ويوسف إدريس؟

ولماذا نتخيل والواقع يشهد بأننا نهدم الآن ما بنيناه، وبأن اللغة الجميلة التى أحييناها تتعرض على أيدينا لموت جديد؟! .