علي محمد فخرو

من حق الكثيرين أن يطرحوا أشكالاً من الأسئلة، الملأى بالشكوك والظنون، حول سيرورة ظاهرة ما يسمى «الدولة الإسلامية» ونظام حكمها من قبل الجماعة الجهادية التكفيرية العنفية المسماة «داعش».


ذلك أن هناك الكثير من شعاراتها وتصرفاتها وعلاقاتها التي توحي بأنها ليست نبتة ذاتية من صنع شباب وشابات مسلمين غيورين على دينهم وراغبين في إقامة دولة لذلك الدين، حتى ولو كان فهمهم لشريعة ذلك الدين ومعاملاته فهماً متخلفاً وظالماً ومتصادماً مع أنبل ما في العصر الذي نعيش من قيم وحقوق وضوابط.


لو كان ذلك الفهم البليد المجنون نتيجة لعاهة في نبتة ذاتية، وليست نبتة زرعتها أيادي الغير وتولت رعايتها جهات خارج نفسها، لبقيت تلك النبتة محدودة في إمكاناتها وسرعة نموها، ومحصورة في تربتها وفي تأثيراتها في البشر والمجتمعات والدول عبر العالم كله، بل ولما بقيت عصية حتى الآن على كل محاولات احتوائها ومنع انتشارها وإلحاق هزيمة بتركيبتها العسكرية.


أصابع كثيرة تشير إلى هذا الغير الخارجي الذي لعب دوراً محورياً في زراعة نبتة «داعش»، ابتداء بما نشرته مواقع «ويكيليكس» الشهيرة التي سمت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والكيان الصهيوني كمؤسسين لتنظيم «داعش» سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، مروراً بجهات عربية وإقليمية قدمت أنواعاً من المعونات المادية واللوجستية، وانتهاء بذكر أسماء مئة وثلاثين من الأفراد والجهات الموسرة التي أغدقت المال. وكانت النتيجة تكوين جيش دولي في فترة قصيرة من عشرات الألوف من المتطوعين من كل أنحاء العالم، جيش مجهز بأحدث وأفتك الأسلحة ولديه المعرفة والخبرة القتالية ذات المستوى العالمي الرفيع.


كل ذلك تم والغرب كله يدعي عبر عشر سنوات كاملة بأنه في معركة حياة أو موت مع الإرهاب الدولي، ليتفاجأ هذا الغرب، بقواه الاستخباراتية والتجسسية الهائلة، باحتلال «داعش» لثلث أرض العراق وانتقالها إلى سوريا ونجاحها في تمرير الألوف عبر تركيا التي، ومعها الغرب والصهيونية وبعض العرب ،أغمضت العيون وأخرست الألسنة عن الخوض في الموضوع، وأخيراً نجاحها في تهيئة خلايا نائمة في طول وعرض العالم كلُه بما فيها عواصم الدول الكبرى.


وما إن تم ذلك ونفخ في صور الكذب والتظاهر بالبراءة الشيطانية حتى استعمل وجود «داعش» كقميص عثمان لتتكون في لمحة بصر مجموعات جهادية متعددة متصارعة، بجداول أعمال متناقضة، بأهداف سياسية متباينة، بارتباطات ظاهرة وخفية باستخبارات وحكومات في أرض العرب وخارجها. وجميعها، وبقدرة قادر، لديها الجيوش أو الميليشيات المسلحة المدربة الممولة والقدرة الفائقة على احتلال الأراضي وتنظيم الإدارة والحكم فيها.


في هذا الخضم من تشابك المحلي بالدولي، السياسي بالديني، الديني بالطائفي، الحاضر بحزازات الماضي، أحلام الصغار بلعب دور الكبار، الأخبار بالتحليلات المضللة، الجهل والثقافة البليدة عند الملايين بالانقياد الأعمى لاتهامات مفبركة ولصراعات عبثية من مثل صراع الإسلام السني في مواجهة الإسلام الشيعي المضحك المنهك للأرض وللأمُة.. في هذا الخضم المتشابك اللابس ألف قناع، المتغير يومياً، اختفى موضوع قيام «داعش» الذاتي المبني على فهم خاطئ للإسلام وعلى استعمال انتهازي مجنون لتعاليمه، ليحل محله تشخيص رئيسي أكبر وأقوى دولة في العالم بأن «داعش» هي في الحقيقة قوة قتالية إرهابية دولية لن يمكن قهرها إلا بعد عقود من المواجهة من قبل تحالف دولي يضم العشرات من الدول التي تكون فيما بينها قوة عسكرية جبارة.


في هذه الأجواء العاصفة في القطرين العراقي والسوري تهيأت الأجواء، ومرة أخرى بقدرة قادر منظم متآمر، لانتشار «داعشي» سريع وناجح في ليبيا وتونس وسيناء وعدة دول إفريقية واليمن وبعض دول الغرب. لم يجد التنبه الدولي لخطر «داعش» ولم يجد الحلف الدولي الكبير لمحاربته، لم يجديا في منع الانتشار والترسخ والتعاظم في مجتمع بعد مجتمع.


وفي هذه الأجواء العاصفة المخيفة بدأت حملة إعلامية ظالمة على الجاليات الإسلامية الساكنة في دول الغرب وعلى الدين الإسلامي، حملة إيديولوجية قبيحة لجعل الإسلام العدو الأكبر والأخطر لحضارة الغرب.
وفي الأرض العربية قاد الوجود «الداعشي» الخطر الإنسان العربي إلى الابتعاد عن شعاراته العروبية والديموقراطية الكبرى ليطلب الستر تحت جناح هذا الديكتاتور الصغير أو ذاك الطائفي المتزمت أو ذاك الحكم المتخلف.
ليس هذا بالطبع تبرئة للعامل الذاتي المتمثل في وجود تراث فقهي إسلامي متخلف ساهم في تهيئة بيئة صالحة لقيام القاعدة و«داعش» والنصرة وأخواتهم وأبناء عمومتهم. ذلك أن تاريخ العرب مملوء بمد وجزر لقيام واختفاء مثل تلك التوجهات والتنظيمات، قيامها بصورة ذاتية واختفائها بصورة ذاتية.


في هذه المرة يدخل العامل الخارجي بقوة وتآمر واستراتيجية بعيدة المدى وبتفاهم مع قوى سياسية محلية.


موضوع «داعش» لم يعد مرتبطاً بوجود تنظيمها أو عدم وجوده، فهناك الكثيرون ممن على استعداد لأخذ مكانها، وإنما هو في أعماقه موضوع مستقبل أمة العرب ووطنها، ومستقبل وحدتها ونهوضها ودخولها في مسيرة الإنسانية الحديثة. ولأنه كذلك يرقص الخارج رقصة الشيطان معه ومن حوله.