السيد يسين

أقتبس عنوان هذا المقال مباشرة من الكتاب الذي ألفه الباحث والمفكر المعروف «نبيل عبدالفتاح» ونشره المركز العربي للبحوث. ويصدر هذا الكتاب فى توقيت مهم وخصوصاً بعد أن أثار الرئيس السيسي الأهمية القصوى لتجديد الخطاب الديني، ودعوته للأزهر على وجه الخصوص لكي يقود هذه العملية الفكرية المهمة وضعاً فى الاعتبار خطورة شيوع الفكر التكفيري، والذي يمثل البنية التحتية للإرهاب الذي لا يؤثر فقط على أمن البلاد العربية، ولكنه بات يهدد السلام العالمي بعد أن أصبح الإرهاب فكرة سابحة في الهواء يستطيع أي متطرف أن يلتقطها ويمارس فعلاً إرهابياً مدمراً حتى لو لم يكن منضماً إلى تنظيم إرهابي.

وقد سبق لى في المقال الماضي المعنون بـ «نقد الفكر الديني» أن عرضت المفردات الرئيسية في مشروعي العلمي الممتد لدراسة الأفكار المتطرفة للجماعات الإسلامية التي تحولت من الدعوة إلى الإرهاب وفي مقدمتها جماعة «الإخوان المسلمين» و«الجماعة الإسلامية» و«جماعة الجهاد»، وذلك من خلال الفصول المتعددة لكتابي بنفس العنوان، والذي نشر مؤخراً في دار «العين». وكانت وجهة نظري أن نقد الفكر الديني هو المقدمة الطبيعية لتجديد الفكر الديني. وقد قام نبيل عبدالفتاح بجهد علمي خلاق في طرح الأسئلة الرئيسية التي تتعلق بالتجديد. وقد ساعده على ذلك خبرته الطويلة في دراسة الظاهرة الدينية بشكل عام ويشهد على ذلك أن أول كتاب نشره كان عنوانه «المصحف والسيف: صراع الدين والدولة في مصر، عام 1984. وقد أدركت بعد قراءتي لهذا الكتاب المبكر أنني بصدد باحث علمي لديه القدرة على طرح الأسئلة وتطبيق المنهج التاريخي بصورة أصيلة، بالإضافة إلى ممارسته للتحليل النقدي. ولم يكن هذا الكتاب سوى المقدمة التي أعلنت أن دراسة الظاهرة الدينية ستكون أحد المحاور الأساسية في المشروع العلمي لـ«نبيل عبدالفتاح» منذ انضم إلينا فى مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، وقد واصل نبيل عبدالفتاح دراسته عن الظاهرة الدينية فأخرج لنا كتابه المعنون بـ«سياسات الأديان: الصراعات وضرورات الإصلاح» (القاهرة، دار ميريت 2003)، والذي جمع فيه مجموعة بحوث متنوعة تتناول الظاهرة الدينية. ثم أخرج لنا في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية «تقرير الحالة الدينية» الأول والثاني مع «ضياء رشوان»، والذي كان فتحاً في الدراسات المتكاملة، سواء للدين الإسلامي أو الدين المسيحي.


نبيل عبدالفتاح باحث متفرد استطاع أن يبدع لغته الخاصة التي تعبر بدقة عن ظلال المعاني العميقة التي يتعرض لها، وتبدو ألمعيته أساساً في طرح الأسئلة الصحيحة للمشكلات التي يبحثها، وربما تأثر فى ذلك بالتقاليد الفرنسية العريقة التي خبرها جيداً والتي ترى أن وضع المشكلة الوضع الصحيح يمثل نصف الطريق إلى حلها.

ولابد من الاعتراف بأن تتبع التدفق الغزير للأسئلة قد يحول نصوص «نبيل عبد الفتاح» إلى لوحات معرفية تحتاج إلى التعمق في بعضها. فهو في هذا الكتاب المهم- والذي يعد إضافة قيمة لدراسة موضوع التجديد- يبدأ أولاً بالحديث عن «تاريخية سؤال التجديد في الفكر والخطابات الإسلامية» مطبقاً المنهج التاريخي بشكل خلاق، ثم ينتقل بعد ذلك لضبط ما يسيمه «المصطلحات والمفاهيم السائلة»، ثم يتساءل عما وراء جمود الفكر الديني وسؤال التجديد. ويعد ما يثير عديداً من الموضوعات الفرعية ينتقل إلى صلب البحث في الباب الثاني ليتحدث عن أسباب استمرارية الجمود والمتغيرات ومداخل جديدة.

وهذه عينة من الأسئلة العميقة التي يطرحها وأنا أقتبس: «هل يمكن فصل المقدس عن الوضعي وتجلياته في الحياة الاجتماعية المصرية، وحتى الإقليم وعالمنا المعولم وأسواقه الدينية واللغوية والسلفية؟ هل يمكن فصل أنماط التدين وسلوكياته وإدراكات المؤمنين للدين- إسلامياً ومسيحياً ويهودياً وغيره من الأديان الوضعية الأخرى- عن محددات العصر وشروطه وبيئاته؟» ثم يستطرد «اللغة العنيفة التي تبدو أحياناً فى بعض الخطابات كمتفجرات وحاملة فى ثناياها الأحكام المطلقة أو الصارمة التي تسود بعض خطابات رجال الدين- هل تعبر عن حيوية ودفاع عن العقيدة والإيمان؟ أم أنها تحمل وتعبر عن دلالات أخرى من بعض الفشل حينا والعجز أحياناً أخرى عن تجاوز الواقع الاجتماعي والإيماني لهم؟

وربما كان الفصل الرابع من القسم الثاني وعنوانه «نحو سياسة دينية تجديدية» فيها إجابات المؤلف عن عديد من الأسئلة التي طرحها. وهو يقرر «التجديد هنا المقصود به تحولات في بنية العقل والفكر والخطابات الدينية الوضعية البشرية إنتاجاً وتفسيراً وتأويلاً وتأصيلاً للمقدس والوضعي فى بنية الإسلام الكلية: العقيدة والقيم والشريعة والطقوس والممارسة الفردية والجماعة».
&