&فهمي هويدي&

قررت محكمة النقض إلغاء الحكم بإعدام ١٤٩ شخصا ودعت إلى محاكمتهم أمام دائرة جنائية أخرى، وكان ذلك رابع حكم تلغيه المحكمة لنفس القاضي. في قضية أخرى اكتشفت المحكمة أن ثمة تلاعبا في تشكيل هيئة المحكمة بحيث حضر جلسة النطق بالحكم قاضيان غير اللذين سمعا المرافعة ولم يوقعا على المسودة. وفي واقعة ثالثة أصدر مجلس الدولة بيانا شديد اللهجة انتقد فيه وزير العدل واستهجن ما اعتبره «تدخلا صارخا» من جانب الوزير في عمل جهة قضائية مستقلة. هذه الأخبار التي نشرتها الصحف متناثرة في الآونة الأخيرة بمثابة «عيِّنة» من القرائن الدالة على الأزمة التي يعاني منها مرفق العدالة في مصر، وهي أزمة مسكوت عنها رغم خطورتها التي تتجاوز بكثير أزمة ممارسات الأجهزة الأمنية التي تطل علينا شواهدها وتصدمنا حينا بعد حين، كما ترددت أصداؤها قوية في العالم الخارجي بعد حادث تعذيب وقتل الباحث الإيطالي ريجيني. وإذ لا أقلل من حجم الممارسات التي تنسب إلى الأجهزة الأمنية، وأعتبرها انتهاكات جسيمة لكرامة الإنسان المصري وحقوقه، وإساءة بالغة للنظام القائم، فإنني عند رأيي في اعتبار أزمة العدل أكثر خطورة وأعمق أثرا. ذلك أن ممارسات الأجهزة الأمنية مرتبطة بالسياسات التي يمكن أن تتغير تبعا لتقلباتها. أما أزمة مرفق العدالة فقد تؤثر التقلبات السياسية في بعض قطاعاته دون الأخرى، إلا أن أخطر ما فيها أنها تهدر ثقة الناس في القضاء وتشكك في استقلال بعض القضاة، وهو ما يستغرق عقودا لتقويمه وإصلاحه بحيث يستعيد القضاء كبرياءه وشموخه.

أدري أن مصادر التشوهات التي أصابت مرفق العدل محدودة في ذلك القطاع المهم والحساس. الذي يضم نحو ١٦ ألف قاض، إذا أضفنا إليهم قضاة مجلس الدولة. مع ذلك فإن محدودية تلك المصادر سحبت الكثير من رصيد الثقة في القضاء. في داخل مصر وخارجها. فالدوي الذي أحدثته دعوة وزير العدل إلى قتل عشرة آلاف إخواني أو متعاطف معهم مقابل كل جندي يقتل، تجاوز الحدود المصرية العربية. وهو ما دفع منظمة حقوقية دولية مثل هيومان رايتس ووتش يوم الاثنين الماضي (٨/٢) إلى توجيه رسالة إلى الرئيس السيسي طالبته فيها «برد قوي» على ما وصفته بأنه دعوة للقتل الجماعي، تتعارض مع الدستور المصري والقانون الدولي، إذ لا يخطر على بال إنسان سوي أن يطلق الدعوة وزير مسؤول في دولة عصرية فضلا عن أن يكون وزيرا للعدل.

إن النقد الغاضب والحاد الذي وجهه مجلس الدولة لوزير العدل، كان سببه أن الوزير استنكر رفض المجلس طلبه تعديل قانون الإجراءات الجنائية بحيث يسمح للقاضي بالاستغناء عن الشهود في القضايا المنظورة. وهو ما يعد إهدارا للحق في الدفاع وإخلالا فادحا بسير العدالة، لا يتصور أن يصدر عن وزير للعدل.

الأمر الذي يثير الدهشة أيضا أن الوزير منذ تولى السلطة عمد إلى التنكيل بكل من اختلفوا معه أثناء رئاسته لنادي القضاة، خصوصا المجموعة التي تبنت الدفاع عن استقلال القضاء بين عامي ٢٠٠٥ و٢٠٠٦. ولم يسلم من التنكيل الذين رفعوا دعوى ضده في عام ٢٠١٠ بسبب بيعه لقطعة أرض في بورسعيد يملكها النادي في ملابسات محاطة باللغط. وحين رفضت الدعوى في عام ٢٠١٢، فإن الرجل الذي كان رئيسا للنادي آنذاك ما إن عين وزيرا حتى وجه بمطالبة كل واحد ممن رفعوا الدعوى (١٥ قاضيا) بمبلغ ٧٥٠ ألف جنيه بدعوى تسوية الرسوم، التي قضى مجلس الدولة ببطلان قانونيتها في وقت لاحق.

قائمة المخالفات والمكايدات طويلة. ومن أبرزها استخدام تقارير أجهزة الأمن في تصفية الحسابات والكيد للمخالفين. وللأسف فإن تلك التقارير أو التحريات استخدمت كدليل للإدانة في أغلب القضايا السياسية التي نظرتها المحاكم في الآونة الأخيرة، رغم أن المحكمة الدستورية العليا لم تعتبرها دليلا يعتد به، ولذلك فإن الأحكام جميعها مصيرها البطلان إذا ما عرضت على محكمة النقض. وفي الأسبوع المقبل (يوم ١٤/٢) يفترض أن ينظر القضاء في اتهام نائب رئيس النقض المستشار ناجي دربالة بالدعوة إلى تأسيس حركة «قضاة من أجل مصر» بناء على تحريات الأمن. في حين أن الرجل كان معارا لدولة الإمارات ولم يكن موجودا في مصر في الفترة ما بين عامي ٢٠٠٦ و٢٠١٢. فضلا عن أن له كتابات منشورة انتقد فيها موقف الحركة.

ذلك كله في كفة والمذبحة التي تعد لعزل ٥٥ قاضيا ممن وقفوا ضد تزوير الانتخابات ودافعوا عن استقلال القضاء واشتركوا في إصدار بيان في عام ٢٠١٣ دعوا فيه إلى احترام الدستور والقانون وطالبوا أطراف النزاع بالاجتماع على كلمة سواء تحقق صالح الوطن. وما أقدموا عليه كان بمثابة محاكاة للبيان الذي أصدره المستشار ممتاز نصار في عام ١٩٦٨ووجه فيه الدعوة إلى سيادة القانون واحترام الحريات بعد هزيمة ١٩٦٧.

هؤلاء القضاة جرى التشهير والتنكيل بهم منذ عام ٢٠١٣، وفي التحقيق معهم واستجوابهم تم العصف بكل قواعد القانون وضمان العدالة فيه، حتى حرموا من الاطلاع على أوراق قضيتهم أو الدفاع عن أنفسهم. وسيقدمون في الشهر الحالي (يوم ٢٢) إلى مجلس للتأديب مطعون في تشكيله لأنه ضم قضاة من مجموعة وزير العدل، شارك بعضهم في الإبلاغ ضد زملائهم «المتهمين»، ولهم موقف سابق من القضية يجرح حيادهم وعدالتهم.

لا يبدو أننا تعلمنا الدرس من تدهور سمعة الأجهزة الأمنية، لأننا نكرر الخطأ ذاته على نحو أفدح في ملف العدالة، كأن هناك إصرارا مدهشا على المضي قدما على طريق الندامة.