&&عبدالله بن بجاد العتيبي&

كاتب سعودي مهتم بالشّؤون السّياسيّة والثّقافيّة، وباحث في الحركات والتّيارات الإسلاميّة&&

تجيء لحظات في عمر التاريخ يكشف فيها عن أوهامه، البعيدة والقريبة، وما أشبه ما جرى في السنوات الخمس الأخيرة بتلك اللحظات. لقد تكشف الزيف، وتبين الدجل.

لقد ضاعت أعمار، وأفنى الحماس زهرة شبابٍ كثيرٍ، رددوا الهتافات، وباعوا حياتهم ومستقبلهم واشتروا القضايا، التي كانت تساق بلا زمامٍ ولا خطامٍ، ومجّدوا الزعيم الأوحد، وتفننوا في الشعارات، وأخلصوا في الولاء، وتفانوا في خدمة الهدف والغاية.

ما أفدح الخسارة حين يفني المرء عمره في خدمة قضيةٍ ثم يكتشف في آخره أنها كانت خدعةً، فيصبح بين مصيرين؛ إما التعقل والمراجعة التي بقدر ما تنعش عقله بالواقعية، تمزق قلبه بالألم أو المكابرة التي تبقيه أضحوكةً في مجتمعه.

قيل لليساريين العرب إن الاشتراكية هي الأمل والحلم، والبلشفية هي المثال، فتهاووا كالفراش في نارها، وهتفوا بأن الدين أفيون الشعوب، وأن الإمبريالية هي أم الشرور، وتنادوا: يا عمال العالم اتحدوا. وأيقنوا أنه لا بد للبروليتاريا أن تنتصر، وللبورجوازية أن تسقط، وحين تكشف الواقع عن الفشل الذريع، لجأوا للتأويل، وبرروا أبشع المذابح الإنسانية مع ستالين، وأصبحوا كلما ورث ديكتاتورٌ ديكتاتورًا، برروا له كل جرائمه، واختصموا حينًا، وقالوا إن النظرية لا تحاكم للتطبيق، وانقسموا واختصموا، وتنازعوا وفشلوا، حتى سقط المشروع وتخلى عنه بُناته في كل البلدان، فهاموا على وجوههم يتلمسون خلاصًا فرديًا، أو منهجًا نظريًا لا يمت للواقع بصلة.

ثم جاء عصر القوميات والعرقيات، كنازية هتلر، وشوفينية موسوليني، فقامت بعض النخب العربية تصوغ القومية نظريةً للعرب وأملاً للشعوب، فكانت القومية والناصرية والبعثية، وقامت سوق القوميين من كل شكلٍ ولونٍ، فنشروا وشجعوا الانقلابات العسكرية، وإسقاط الملكيات، وكادوا ومكروا، وسعوا بقضهم وقضيضهم لتوحيد العرب من المحيط إلى الخليج، وغامروا بتجارب وحدوية، ثم جاءت لحظة الحقيقة، خاضوا الحروب فانهزموا، ووحدتهم التي سعوا لها فشلت عند أول امتحان، ونظرياتهم وأحلامهم تكسرت على جدار الواقع الصلب، فدمروا اقتصاد دولهم، وسمموا أفكار شبابهم، وحاربوا بعضهم، وتآمروا على بعضهم، وباسم محاربة العدو، وتحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة أذاقوا شعوبهم صنوف الذل والهوان والفاقة، حتى سقطت الفكرة وسقط المشروع فتفرقوا أيدي سبأ، كل حزبٍ بما لديهم فرحون.

ثم جاء عصر الحركات الإسلامية، لا كدولٍ بل كجماعاتٍ، ولا كحكوماتٍ بل كتنظيمات، وورثوا خطل سابقيهم، فقاموا بأسلمة مفاهيم اليسار، وتحدثوا عن اشتراكية الإسلام، وتبنوا تنظيمات اليسار والتنظيمات القومية، فنشروا العنف والإرهاب، وتبنوا الأممية بدلاً عن القومية، وتباهوا بسيادة الدنيا وأستاذية العالم، وسعوا لبناء الانقلابات والثورات، وتفانوا في الفرح وتقديم الدعم لما عرف بالثورة الإسلامية في إيران، وابتهجوا لحكم «الإخوان» في السودان، ودعموا حكم طالبان في أفغانستان، وذهبوا بعيدًا نحو أسلمة الصومال، وحين جاءت لحظة الحقيقة، فإذا بنماذجهم أسوأ النماذج، وبسلطتهم أسوأ السلطات، ومنوا بالفشل الذريع، وأعمتهم غواية الآيديولوجيا عن الواقع، ومع وضوح الهدف السياسي السلطوي لديهم فقد كانوا كلما فشلوا يلجأون إلى الدين باعتبارهم ممثليه ويعيدون صياغة الوهم من جديد.

ثم جاءت لحظة ما كان يعرف بالربيع العربي، ودور الشباب الجديد، ودور التقنيات الحديثة، وثورة الإنترنت، ومواقع التواصل الاجتماعي، و«الورد الذي فتح في جنائن مصر»، وتونس وليبيا، وظن الشباب أنهم أقوى من كل البنى التقليدية للمجتمعات، وأنهم سيغيرون التاريخ في لحظةٍ وإلى الأبد، وهاموا بالحلم وتبعوا الوهم، وانساقت معهم دولٌ عظمى كانت قياداتها تتبع الصور والأخبار من الميادين وتزايد عليها.

وحين تداخلت المشاهد، وانتشرت الفوضى، وتكسرت جميع الأوهام السابقة، سعت للتوحد ودعم بعضها البعض، وهو أمرٌ مستمرٌ منذ عقودٍ، فكان سيد قطب يدعم الكاشاني، ورأى المودودي في الخميني تجسيدًا لأفكاره، وتم تسويق الخميني كثائرٍ جديدٍ لا يشبه غيفارا ولا ماو تسي تونغ، وأيده يسار فرنسا ويسار العرب، وصار اليسار العرب يؤيدون الثورة الدينية الخمينية، وصار القوميون العرب يؤيدون إيران الفارسية، والبعثيون السوريون ينحازون لإيران الإسلامية ضد البعثيين العراقيين، والبعثيون العراقيين ينحازون للإرهاب الديني، واندمجت بعض بقاياهم مع تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، وصارت المقاومة والممانعة محورًا سياسيًا وتيارًا ثقافيًا، لا يرتكب الخطيئة إلا ليلقى التبرير، ولا يجترح المغامرة إلا ليلقى التمجيد.

حتى وصلنا للمشهد اليوم، فإذا بالنقائض تبرز، والاعترافات المتأخرة بالأخطاء تظهر، فالكاتب المقرب من أوباما ديفيد إغناتيوس يكتب عن فشل الرئيس أوباما في قراءة المشهد في العالم العربي قبل سنواتٍ خمسٍ، وتوماس فريدمان ينقل عن وجدي غنيم خيباته وأوهامه واعترافاته المتأخرة بفشل ما كان يعرف بالربيع العربي.

ظلّ العديد من المثقفين - كما يقول المثل الإنجليزي - يضع نفسه في حذاء إيران أو أي حذاء معادٍ لسنواتٍ، وسودوا الصحف وسطروا المقالات ونشروا الآراء، ولكنهم لم يتعلموا أن يضعوا أنفسهم في حذاء أوطانهم ومواطنيهم، وأن يستشعروا الإمكانيات ويحسبوا المخاطر، ولكن ضخامة الأحداث وتصاعد الصراع في المنطقة منذ عامٍ تقريبًا أجبر الجميع على إعادة قراءة الأحداث وإعادة التموضع، فلم تعد الخيارات مفتوحةً ولا نسبيةً، فعاد العاقل لوطنه ومجتمعه واكتشف كل الزيف الماضي، والخديعة التي عاش وعيش من يثق به داخلها، وبقي العميل عميلاً يهذي بلغةٍ عربيةٍ ولكنها بلكنة الأعداء ولحنهم ولهجتهم.

وعلى سبيل المثال، فقد كان حزب الله اللبناني واضحًا منذ تأسيسه مطلع الثمانينات، ويعترف قياداته بتبعيتهم الكاملة لولاية الفقيه في طهران وللإمام الخميني، ومشروع إيران الفارسي التوسعي تحت غطاء الطائفة، وكلما كشف عن كيده لوطنه لبنان ولمواطنيه دافعت بعض النخب السابقة عنه تحت شعار المقاومة والممانعة، وعندما اغتال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري برأوه دون محاكمةٍ، وعندما دخل في مغامرة غير محسوبة 2006 تعالت أصواتهم في الدفاع عنه، وعندما ارتكب الفجور، واستهدف بيروت في 2008 وفضح نفسه ظلوا يرددون الأسطوانة المشروخة نفسها عن المقاومة والممانعة، حتى جاءت لحظة الحقيقة بدخوله المسلح لمشاركة نظام بشار الأسد، في قتل الشعب السوري تحت أبشع الشعارات الطائفية، فتبرأ بعضهم منه وكتبوا عن مرارة الخديعة.

أخيرًا، عقودٌ من الأوهام مرت، ولم تزل الأوهام تسوق وتنتشر وتجد أتباعًا تزيدهم وهمًا وتيهًا وضياعًا، وما لم تنهض الدول والمجتمعات نحو نشر التعليم المميز وبناء التنمية وحرب التخلف، فإن المستقبل الناصع النجاح سيظل مختفيًا خلف سجف الضباب الكثيف.

&

&