يحيى الأمير

بينما لا يمل الوعاظ من ترديد القصص والحكايات التاريخية التي في الغالب لا تجد مكانا في الحاضر، ولا يمكن إنزالها على الواقع تصبح الساحة الفقهية خالية من مشروع فقهي جديد يتصالح مع الحاضر ويطور الواقع وينسجم معه انطلاقا من القيمة العليا التي يمثلها هذا الدين العظيم الصالح لكل زمان ومكان.

لكن أسوأ من يقدم تلك الصلاحية اليوم هم حشود الوعاظ والقصاص ممن تكتظ المنابر بقصصهم القديمة التي لا علاقة لها بالحاضر.

القضايا الفقهية الكبرى تحولت بالفعل إلى أزمات كبرى، لأنها لم تنتج فقها جديدا ولا خطابا جديدا يتجاوز الماضي وينطلق من الحاضر، فالدرس الفقهي الآن هو درس ماضوي بامتياز وهذه أكثر مناطق أزماته.

كيف تحول الجهاد مثلا من قيمة عليا إلى أزمة، ولماذا يقف المفهوم التقليدي الخاطئ للجهاد خلف أكبر الأزمات والملفات التي يشهدها الواقع الحالي. بل تحول إلى مادة يمكن توظيفها ودعم جوانبها القاتمة ليجيش العالم ضدنا وضد ثقافتنا، يحدث هذا في التوظيف الاستخباراتي لجماعات الجهاد والجماعات الإرهابية، والذين يحاربوننا بداعش ويتهموننا بها، هم إنما يحاربوننا بالفقه التقليدي وبأحكامه وقصصه القديمة التي لا مكان لها في الواقع.

وإذا ما أردنا مواجهة حقيقة مع هذا التحدي فيجب أن نؤمن أن داعش مثلا تسعى بكل ما أوتيت من قوة لنبش الفقه التاريخي وإعادة تقديمه كنوع من صناعة الحرج الثقافي لنا ولتاريخنا الفقهي ومن المؤسف حقا أن مختلف المؤسسات والشخصيات الفقهية لم تستطع إلى الآن تقديم فقه جديد ولا نبالغ إذا قلنا أن الرهان عليهم أصبح رهانا خاسرا، خاصة لدى تلك الطوائف الحزبية الحركية.

الكثير من القصص والأحداث التي قامت بها التنظيمات الإرهابية كالإحراق والتنكيل والتعذيب والضرب وإقامة العقوبات على من يحلق لحيته مثلا أو على من يسمع الموسيقى أو على من لا تلتزم بالحجاب كلها قصص لها سندها الفقهي تاريخيا، ولكنها لم تشهد أي فقه جديد يستطيع أن يدين هذه الممارسات وينسف سندها الفقهي، وفيما يستمر وجل المؤسسات والفقهية وجمودها يستمر هذا التوظيف الإرهابي للفقه التقليدي التاريخي يجعلنا كل يوم أمام تهمة جديدة ومواجهة جديدة .

المشروع الحقيقي والمنتظر الآن يتمثل في تقديم مشروع فقهي جديد حول الجهاد يخرج من الإطار التاريخي الجاهز إلى إطار جديد وأكثر واقعية، يرتبط بالدولة وبالمصلحة،

إن ما يقوم به الجنود السعوديون وأشقاؤهم من دول التحالف يمثل نمطا حقيقيا وصادقا من الجهاد ويمكن أن يؤسس لمفهوم جديد هو : الجهاد الوطني يرتبط بالمصلحة العليا للوطن ويبني من الوطنية أساسا ومفهوما متينا للفداء والدفاع ومواجهة المعتدي.

لقد استطاعت المملكة حماية مشروع عاصفة الحزم وإعادة الأمل من أن تسيطر عليه لغة فقهية قديمة، ولو حدث لوجدنا خطابا طائفيا حادا كان سيسهم في تكريس ما يتهمنا به الأعداء والخصوم، وما نقوم به في اليمن لا ينطلق من أي بعد طائفي أو مذهبي، إنه جهاد وطني مدني رشيد، يحمي الأمن والمستقبل والتنمية ويعزز الأمن الإقليمي، وهذه من المصالح العليا التي لا تقبل التردد والقيام بها من الواجبات، وكل هذه المعاني لا يوجد لها في الغالب سند في مدونات الفقه التاريخية لسبب يسير وهو أن الدولة الوطنية الحديثة هي في الأصل مفهوم وكيان لم يكن مألوفا ولا معروفا يوم أن كُتب ذلك الفقه.

ذلك المشروع الفقهي المنتظر لن يقوم به الوعاظ وأصحاب القصص والحكايات الحماسية وحدثني ثقة وغيرها من أساليب الحكواتية البسطاء، هذا مشروع يقوم به المفكرون والعلماء الحقيقيون والمثقفون وتحميه وترعاه الدولة.

إن أكبر هزيمة للإرهاب والتطرف لا تأتي بالمساجلة والردود، بل تأتي من نسف ذلك الخطاب بأكمله وبناء خطاب جديد.