&غسان الإمام&

انتظرت إيران «غودو» في القرن العشرين. فحكمها وكيله رضا بهلوي برتبة إمبراطور. فكر الإمبراطور بالتحالف مع هتلر. فاستغل ستالين وتشرشل صمت مرجعية الملالي، فاحتلاّ إيران في أربعينات الحرب العالمية. خلعت روسيا وبريطانيا شاهًا ظالمًا. وأجلست نجله محمد بن رضا شاهًا مستبدًا.

انتظرت إيران «غودو». فخلعت أميركا الشاه المستبد. وجاءت بالخميني وكيلاً لـ«غودو» المنتظر. علق الخميني مفتاح «القدس» في الرقاب. وأعلن العراق طريقًا إلى المدينة المقدسة. ففني جيلان إيرانيان على أسلاك صدام الشائكة. أقنع الساحر رفسنجاني الخميني بتجرع «سم» السلم. فمات الوكيل مغمومًا.

انتظرت إيران «غودو». فابتكرت المرجعية خامنئي وكيلاً. علّق الملاّ مفتاح القدس في الرقاب. وأعلن سوريا طريقًا للمدينة المقدسة. سارت قطعان المرتزقة وراء سليماني. وبشار. والملا حسن نصر الله. فضلت المسيرة على أبواب حلب الطريق إلى الجولان!

انتظرت إيران «غودو». فجاءها وكيله هذه المرة من صقيع سيبيريا. فلا الشاهات صانوا الاستقلال. ولا الملالي حفظوا هيبة السيادة. وانتقلت العاصمة من طهران إلى قاعدة همدان. فتبخرت على الطريق «المقاومة» لأميركا. واختفت «الممانعة» لإسرائيل.

نحن اليوم، إذن، أمام حلف انكشاري مستحيل بين ملاَّ. وقيصر. وسلطان. وجلاد! بلغ الغرور بقيصر إلى الظن بأنه قادر على تدمير بلد بصقر من طراز «سوخوي». وإبادة سكانه، تمامًا كما فعل بشيشنيا وعاصمتها غروزني، ليحكمها جلاد سوري مسلوب الإرادة، برتبة الجلاد رمضان قديروف حاكم شيشنيا.

ينسى قيصر أن الحروب النظامية والمدنية لا يمكن كسبها من الجو. فقد قصفت قاذفات الـ«بي-52» الأميركية فيتنام، بقنابل زنة الواحدة منها أكثر من طن. وكافية لتدمير حي بمساحة ملعب كرة القدم. مع ذلك اضطر هنري كيسنجر لتوقيع اتفاق الهزيمة والانسحاب، مع العجوز هو شي مينه الذي كان يومًا عاملاً في مصنع للسيارات بضواحي باريس.

أما إيران فقد خسرت الاستقلال، باحتلال روسيا لقواعدها الجوية القريبة من حدودها مع العراق. واستنزفتها حرب الهيمنة على سوريا. وأحرجتها هزيمتها مع بشار في معركة حلب. وتفجرت الانتفاضات العابرة والاضطرابات التي تستوطن مناطق الكرد. وعربستان. وبلوخستان. وللردع تم تنفيذ قائمة إعدامات للعرب. والبلوخ. والأكراد السنة.

اقتراب روسيا من مياه الخليج الدافئة قد يجر إيران إلى منح روسيا قواعد على مدخل الخليج قبالة عُمان، نكاية بأميركا والعرب. هذا الاحتمال ضعيف. لكنه مخيف. فقد يؤدي إلى صدام أميركي/ روسي. أو حرب عربية/ إيرانية، إذا أقدم الروس على التدخل في اليمن، لإسناد الحوثيين عملاء إيران.

لا نهاية لقدرة قيصر اللاعب بالكرات الثلاث (إيران. سوريا. تركيا) على تدويخ أميركا. فهو يعدها تارة بهدنة في حلب. ووقف إطلاق النار في الغوطة المحيطة بدمشق. وبفك الحصار عن المناطق الجائعة. ثم يستعجل الخواجة دي ميستورا، لإجراء مفاوضات، تنتهي بتثبيت رئاسة بشار. وتشكيل حكومة من الموالين والمعارضين، تعزز هيمنة إيران على سوريا ولبنان.

المناور بوتين يحاول ضم «المثقف» أوباما إلى الحلف الرباعي. ويجبره على التنسيق معه، تفاديًا لصدام جوي فوق سوريا. وخاصة أن أميركا سارعت إلى تقديم الحماية الجوية لأكراد سوريا، بعدما قصفتهم طائرات بشار في الحسكة (أقصى شمال شرقي سوريا).

أوباما يلعب لعبة كردية مزدوجة. فهو يعتمد أكراد العراق وسوريا حليفه الاستراتيجي الأول في المنطقة. ويخوض بهم حربه ضد «داعش» في البلدين، فيما يقول لتركيا والعرب إن أميركا اشترطت على الأكراد الانسحاب من الأراضي العربية التي يحتلونها في سوريا الشمالية. وعدم تجاوز الخط التركي الأحمر (نهر الفرات)، لاستكمال احتلال المناطق الحدودية، وصولاً إلى عفرين غربًا. وبذلك يغلقون المعابر التركية التي تزود المعارضات الدينية المسلحة، وخصوصًا في حلب وإدلب، بالسلاح وسلع التموين.

هل يجرؤ طيران بشار على تحدي طيران أوباما، فيواصل قصف الأكراد في الحسكة وغيرها؟ الجواب عند إيران التي تحرض بشار، خوفًا من أن تسعى أميركا لإقامة دولة كردية لهم تمتد من أراضٍ في إيران. والعراق. وسوريا. وتركيا. وربما أراض في روسيا أيضًا. وها هم عسكر البنتاغون ورجال المخابرات يمهدون سلفًا للمسعى، بالإعلان سلفًا عن تشاؤمهم، إزاء إمكانية استعادة سوريا استقلالها. وسيادتها. ووحدة أراضيها.

ربما يتعيَّن على العرب عدم توجيه الكثير من اللوم والنقد إلى تركيا، على انضمامها للحلف الرباعي. فلتركيا تحفظاتها الكثيرة. وفي مقدمتها، إصرارها على ترحيل بشار بعد تشكيل هيئة الحكم الجديدة. وعدم موافقتها على تشديد القصف الاستراتيجي الروسي من الجو. والبحر، للمعارضات المسلحة المقاتلة ببسالة في حلب. أو حصار المدينة وتجويعها. ورفضها لسيطرة أكراد «حزب الاتحاد الديمقراطي» على سوريا الشمالية. واجتياز الخط الأحمر التركي، بعد احتلالهم منبج.

نعم، تضاءل الدور التركي في سوريا، نتيجة محاولة أميركا وروسيا تحييدها. وإغلاق الوصل والاتصال بينها وبين المعارضات المسلحة، فيما تستضيف عندها المعارضات السياسية التي تجد نفسها هي أيضًا محرجة، إزاء تقلب الموقف التركي المشغول حاليًا، بملاحقة أنصار الداعية التركي «المتأمرك» فتح الله غولن الذي تتهمه تركيا بالتخطيط للمحاولة الانقلابية على السلطان الراغب في إحياء «أمجاد» الإمبراطورية العثمانية.

لا شك أن القارئ يلاحظ مدى تعقيد الأزمة السورية. ومضاعفاتها الدولية والإقليمية الأخيرة. فسوريا اليوم لوحة سوريالية مرسومة بالدم. وربما غير مفهومة لدى الدول الخليجية التي وجدت نفسها متورطة بالتدخل المباشر، لأول مرة في تاريخها العربي المعاصر.

ومن القضايا الشائكة، انضمام «جبهة النصرة» إلى تنظيمات المعارضة الدينية وغير الدينية في حلب. وتحملها عبئًا كبيرًا في الدفاع عن المدينة الشهيدة. لكن إعلانها عن انفصالها عن «القاعدة» لا يمكن أن يحمل على محمل الجد. والامتحان الجدي لها وللتنظيمات الدينية، هو في مطالبتها بالإعلان صراحة عن ولائها لعروبة سوريا ولديمقراطية النظام السوري بعد الإصلاح. وترحيل بشار الأسد.

وبالتالي، يتعيَّن أيضًا على الدول العربية المعنية بالأزمة السورية، توسيع فرجة البيكار، للتعامل مع تيارات سورية أكثر ليبرالية من التيارات الدينية، بما في ذلك قوى مسيحية. وأحزاب وتيارات كردية معارضة للنظام. أو غير موافقة على تقسيم سوريا. وانتزاع سوريا الشمالية لإقامة دولة كردية فيها. كذلك تستطيع الصحافة السعودية بالذات استقطاب مزيد من الكُتاب السوريين المعارضين، لإيصال آرائهم ومعلوماتهم المختلفة إلى القارئ العربي الخليجي.

&

&

&