&سمير عطا الله&&&

قبل نحو ربع قرن وصلت مجلة «نيويوركر»، أهم، وربما أجمل، مجلة أسبوعية في تاريخ أميركا، إلى مأزق نهائي حيال الصدور. إما أن تخفِّض من تكاليفها، وبالتالي أن تحطّ من مستواها، وإما التوقف. وكان هناك حل واحد هو أن تعوّض الشركة الناشرة الخسائر من دخول المطبوعات الشعبية الرابحة. لكن لا بحث إطلاقًا في قضية المستوى، لأنه مبرّر الوجود منذ العدد الأول قبل نحو القرن. لا تزال «نيويوركر» تصدر على أرقى ما في صحافة العالم من تحقيقات وأبحاث وقصائد وقصص وكاريكاتير ونقد أدبي وسينمائي وتلفزيوني. لا شبيه لها في الصحافة العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية أو الإسبانية. لأنه ليس من السهل، وربما ليس من الممكن، العثور على جميع هذه الطاقات والمواهب كل أسبوع في مكان واحد. لكن الهدف من التحدث عن هذا المثال الآن هو ما تواجهه الصحافة الراقية في كل مكان: هل الحل بالإغلاق، أم بخفض المستوى، أم بالدعم من مصادر راقية ومستقلة؟ الحل الأمثل بالنسبة إليّ، إذا كان ممكنًا، أو محتملاً، هو الدعم المستقل. لكن إذا توافر الدعم، فهل يمكن أن يكون مستقلاً؟ وإذا لم يكن مستقلاً، يبقى الإغلاق أضمن وأنبل.

المسألة مطروحة، بالدرجة الأولى والأخيرة، على الصحافة نفسها. ليس هناك من يستطيع أن يقرر لها، أو عنها، نوعية الوجود والبقاء الذي ترتضيه. وليس لها أن تتذرّع، مثل الأطفال، مرة بطغيان الإنترنت، ومرة بشح المداخيل، ومرة بتغير طبيعة الحياة والقرّاء. الصحافة الكبرى مثل الجامعات الكبرى، مثل المعاهد العلمية الكبرى، تشكّل ركنًا من أركان الوجود في كل بلد. وليس كثيرًا عليها الاعتماد على المصادر المستقلة تمامًا، أي التي لا غايات محصورة أو صغيرة أو حزبية لها. الخوف الأكبر هو أن تحاول الصحافة الراقية، في سبيل البقاء، أن تتحول إلى صحافة رخيصة تعتمد الإثارة والإباحيات والسطحيّات وحتى السخافات. في استطاعة الصحافة اعتماد أشكال الحداثة ومتطلبات العصر من دون الإسفاف، أو الانحطاط. يسعدني أن أتابع في هذا المجال، يومًا بعد يوم، نموذج «المصري اليوم». أقدمه مثالاً على الصحافة الخاصة التي تجاوزت الصحافة الرسمية المدعومة من الدولة والحكومة. ربما هناك نماذج أخرى لا مجال للبحث فيها الآن. لكن «المصري اليوم» تحافظ على مستوى واسع التعدد والآفاق من التخطيات الصحافية من آراء الكتّاب ومن الاجتهادات الفكرية ومن الاستقلالية في الرأي، بحيث لا تعود تعرف إن كانت في اليمين أو في اليسار أو في الوسط. ولعل الأرجح أنها في قلب مصر، وأقصد مصر التي كانت أم الصحافة الراقية في جميع العصور. وأعتقد أن ثمة قاعدة واحدة تحكم جميع الكتّاب والعاملين في إنشاء هذا العمل اليومي، وهي قاعدة الحرص على الموضوعية المهنية والمستوى الوطني. وأمام هذا النموذج، لا ذريعة لأحد في الذهاب نحو التردّي، أو الخروج على بديهيات الأصول المهنية. إن المحافظة على الصحافة الورقية، وعلى مستوى الصحافة الإلكترونية، لا يكون بالتوفير، أو بالتقليص، وإنما باعتبار بقايا مسؤولية جميع الناس، خصوصًا القارئ الذي يفيق كل يوم باحثًا عن صدقية الحياة ورقي الكلمة.

&&

&