عبدالله الناصر

من حسن حظي أنني تعاملت في عملي الدبلوماسي مع مدرستين مختلفتين.. مدرسة الشيخ ناصر المنقور رحمه الله ذلكم الرجل الحكيم، الداهية، الذي ما خطر على بالي أحد من دهاة العرب إلا وظهرت لي صورته، بل إنه ليخيل إلي أنه خرج من رحم أمه، داهية حكيما سياسيا محنكا..

أما المدرسة الأخرى فهي مدرسة الفن والإبداع مدرسة غازي القصيبي، والواقع أنني كنت اعرف غازي، الشاعر الألمعي، والكاتب المبدع، والخطيب المفوه، والشجاع الجريء الأروع.. ولكنني لم أكن اعرف غازي الإنسان النبيل، البسيط النقي إلى درجة شفافية الزجاج والبلور، ولا الإداري المحنك، والذي يجعل أمور العمل تسير بسلاسة، وانضباط إذ يشعرك أنه لا يعمل شيئا، فلا تجد ملفا أو ورقة على مكتبه، ولا ترى المراجعين قد صفوا ينتظرون الإذن بالدخول إليه، لأنه قد يسر أمورهم من خلال آلية العمل المتقن فكل يذهب إلى الجهة أو الإدارة التي تعنيه، فيخرج راضيا مغتبطا وقد حُلت أموره..

عند أول لقاء مع الدكتور غازي، وكان لقاء خاصاً بالمبتعثين، وأعمال الملحقية، لم يحدثني عنهم، وإنما كان الحديث عن الثقافة والأدب، والشعر وعن لندن التي اصبحت ملاذاً وموئلاً للمثقفين والمبدعين العرب وعن أيام كان طالبا بها، وكيف تم امتحانه في أقل من ساعة ثم طلب إليه الممتحنون أن يأخذ كوبا من القهوة وينتظر في الغرفة المجاورة وبعد لحظات استدعوه وقالوا له: مبروك يا دكتور غازي.. وقبل أن ينتهي هذا اللقاء قال اسمع يا عبدالله المبتعثون من مسؤوليتك ولن أتدخل في عملك إلا عندما تحتاج المساعدة، والعون، وصدق الرجل فما جاءته رسالة من مبتعث إلا أحالها إلي.. وما طلبنا منه عوناً إلا كان الملبي المجيب..

ومع هذا فقد كان حريصاً على أن يلتقي بهم ويجتمع معهم وأذكر أن أول لقاء مع الطلبة كان في مانشستر حيث حضر ذلك الاجتماع أكثر من ألف وخمسمئة طالب، ووصلنا المقر وكان الوقت صلاة الظهر والعصر جمعا فدخلنا مع المصلين، ولما انتهت الصلاة التف الطلاب حوله وأخذ يسلم عليهم ويداعبهم بنكته، ويرد عليهم ببديهته السريعة، ثم بدأ الاجتماع، والذي كان في بدايته عاصفاً، من قبل بعض الذين كانوا يأخذون على غازي بعض أفكاره وطروحاته، وكان حاضر الإجابة سريع الرد مقنعاً، متمكنا في الدفاع عن آرائه بطريقة جذابة وشيقة، ما جعله يستلّ ذلك التوتر من النفوس، وظل الاجتماع قرابة الساعتين.. وقد خرج الطلبة بصورة مختلفة، وانطباع مختلف فقد أحبوه وأحسوا بقربهم منه في أول لقاء..! وتوالت الاجتماعات، وكان أريحيا كبير النفس واستطاع أن يجذب إليه كثيرا من المبتعثين حيث تتحول بعض الاجتماعات إلى شبه ندوات شعرية، وثقافية إذ كان بين الطلبة شعراء وقصاصون ونقاد وفنانون.. وعندما أسستُ المجلة الثقافية وأهديت العدد الأول إليه، هاتفني مندهشا من مادتها وإخراجها وقال لكنني اخشى ألا تستمر بهذا المستوى، فأنا أعرفُ الناس بالعمل الصحفي وإمكاناتكم شحيحة وضئيلة..! فقلت له اطمئن سوف تراها تتقدم عدداً بعد آخر.. والحق أنه كان صاحب فضل في مساعدة بعض الكتاب العرب الذين كانوا يكتبون بها إذ إن الوزارة لم تكن تدفع سوى ثمن الطباعة فقط..! ومع مرور الأيام تحول الدكتور غازي بالنسبة لي من مسؤول إلى صديق، كان بيننا مكاتبات، وأشعار، ومناكفات ومشاغبات تحكي قصة أحد عشر عاماً من المسؤولية والصداقة والأخوة، كانت تحكي قصة زمن كله رائع وبديع، وربما أخرجت ذلك في كتاب بحول الله..

وكانت له رحمه الله وقفات الرجال النبلاء.. أذكر أن الملك عبدالله-رحمه الله- زارنا أكثر من مرة عندما كان ولياً للعهد، وكان هناك طلبة يدرسون على حسابهم الخاص وطلبة أوقف الصرف عليهم لعدم تخرجهم... فتحدثت مع الصديق الأستاذ فيصل المعمر وكان ضمن الوفد، حول الرفع للأمير عبدالله لإلحاقهم بالبعثة فاستحسن الفكرة.. فذهبت إلى الدكتور غازي وقلت أريد دعمك فقال أبشر..! فنسقنا مع الشيخ عبدالعزيز التويجري - رحمه الله - للقاء مع الأمير وكان ساكناً في فندق كلاردج.. فرحب بذلك وأعطانا موعداً، والطريف أننا عندما دخلنا بهو الفندق رأينا الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل جالساً في البهو.. فقال الدكتور غازي: "شف الخبيث جالس ينتظر نزول الأمير ليشحذه" صعدنا لجناح الأمير عبدالله، فوجدنا الشيخ التويجري، والأستاذ مشعل الرشيد مستشار الأمير فقط.. وبعد لحظات خرج إلينا الأمير، وتناولنا القهوة.. ثم نهض الدكتور غازي واتجه إليه، وانحنى يقبل رأسه، وهو يقول: أنا طالبك يا طويل العمر.. قل تم، قل تم..! اندهش الأمير وتحيرّ قليلا ثم قال: تم ابشر، وش عندك؟! قال أنا ما عندي شيء، عبدالله الملحق الثقافي لدية قائمة بالدارسين على حسابهم الخاص، أو الذين أوقفت بعثتهم، ويرجو منك إلحاقهم بالبعثة.. تهلل وجه الأمير وأسفر وقال: ابشر هات اللي عندك يا عبدالله، فقدمت له الخطاب الذي وجهته إليه وقائمة بالدارسين وكان عددهم قرابة ستمئة طالب، فاعتمد إلحاقهم بالبعثة فوراً..

رحم الله الملك عبدالله رحمة واسعة..

هذه لمحة سريعة من لمحات عملي مع الدكتور غازي القصيبي رحمه الله ذلكم الرجل الشهم الفذ المبدع في كل شيء.. ويا لخسارتنا في الرجال الأفذاذ والكبار العمالقة..!