وليد محمود عبدالناصر

تكثر الكتابات وتنتشر الأحاديث منذ قرون عديدة عن «المستعربين» الأوروبيين، ومنذ عقود طويلة عن «المستعربين» الأميركيين، لكن قليلة هي الكتابات ومعدودة هي الأحاديث عن «المستعربين» في القارة الآسيوية، بخاصة في البلدان غير الإسلامية في آسيا، من دون أسباب وجيهة لذلك. وتتمحور تفسيرات تلك الظاهرة على كوننا، في وطننا العربي، لا تزال تتملكنا «عادة» التركيز على الجار الأوروبي، شمالاً أو غرباً، وسواء وُجد في القارة الأوروبية أو في أميركا الشمالية، ربما من باب التعود تاريخياً على ذلك، أو ربما من منطلق الانبهار به، أو ربما على خلفية الحقيقة التاريخية التي مفادها أنه منذ ظهور الدين الإسلامي وانتشاره فإن التفاعلات الأكثر كثافة، إن حرباً أو سلاماً، بين العالم الإسلامي، وفي القلب منه الوطن العربي، وبين العالم الخارجي، كانت مع الغرب الأوروبي ثم امتداده الأميركي حضارياً وثقافياً، وربما لتلك الاعتبارات كافة أو بعضها مجتمعة أو حتى مع إضافة اعتبارات أخرى إليها.

لكن الواقع المعاش يؤكد أن «المستعربين» الآسيويين، خصوصاً في البلدان الآسيوية غير الإسلامية، لعبوا في الماضي، ويلعبون في الحاضر، وسيلعبون في المستقبل، أدواراً مهمة، يمكن، بل يتعين، توظيفها لخدمة المصالح العربية، ولكسب أرضية متزايدة في صفوف النخب والرأي العام في تلك البلدان بحيث تكون متفهمة للوطن العربي وسياقه الثقافي والحضاري وخصوصياته التاريخية وأنماط تطوره الاجتماعي وتطلعات شعوبه والتحديات التي تواجهها، وتكون مساندة للشعوب العربية في عملها لتحقيق ما تصبو إليه من رقي وتقدم وتنمية ونهضة، بخاصة في ضوء أن بعض هذه البلدان الآسيوية غير الإسلامية هي أيضاً، مثل الأمة العربية، صاحبة إرث ثري وتراث جدير بالاحترام والتقدير من العطاء الحضاري والثقافي الإنساني على مدار قرون ممتدة زمنياً، بل يعود بعضها إلى فجر تاريخ الحضارة الإنسانية والعمران البشري طبقاً للمعاني والتعريفات والتوصيفات التي نتداولها في زماننا الراهن، وأعني هنا على سبيل المثل لا الحصر بلداناً مثل اليابان والصين والهند. 

وسأخص بالذكر حالة اليابان، لأنني عايشتها ودرستها وتابعتها على مدار أكثر من ثلاثة عقود، وما ارتبط بذلك واستمر بعده من تكثيف المتابعة وتضاعف الصلات مع دوائر متعددة وقطاعات مختلفة ممن يمكن أن يندرجوا تحت المظلة الواسعة لما نطلق عليه هنا «المستعربين» اليابانيين أو ممن يرتبطون بالوطن العربي في شكل أو في آخر من مختلف شرائح وفئات المجتمع الياباني، الذي يموج بحراك ثقافي شديد الثراء والخصوبة ويتصف دوماً بكثافة التفاعل مع «الآخر» الثقافي والحضاري، بما في ذلك «الآخر» العربي أو الإسلامي.

ولا يمكن إغفال حقيقة أن من بين الأسباب التي أثارت الاهتمام لدى البعض في وطننا العربي بوضعية «المستعربين اليابانيين»، كان الفوز الكبير الذي حققته السيدة يوريكو كويكي في انتخابات اختيار عمدة مدينة طوكيو، وهي السيدة التي رشحت نفسها بصفتها مستقلة، على رغم كونها من أبرز قيادات الحزب الليبرالي الديموقراطي، الشريك الأساسي والأكبر في الائتلاف الحاكم، نظراً الى أن قيادة الحزب رشحت شخصية أخرى. لكن كويكي حققت انتصاراً كبيراً وفازت بتلك الانتخابات التي لها دلالات كبيرة في الحالة اليابانية ليس فقط لأن طوكيو هي العاصمة والمدينة الأكبر في اليابان، لكن لما اكتسبه منصب عمدة طوكيو على مدار العقود من أهمية، بخاصة منذ تبني النظام الديموقراطي الليبرالي التعددي في اليابان منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وتأتي العلاقة بين كويكي وموضوع «المستعربين» اليابانيين من كونها خريجة كلية الآداب في جامعة القاهرة في عقد السبعينات من القرن العشرين، كما عملت لفترة في مصر كمساعدة لعالم المصريات الياباني الشهير ساكوجي يوشيمورا. كذلك، فإنها الشخصية العامة اليابانية الأكثر طلاقة في التحدث باللغة العربية ضمن جيلها، وعملت لفترة مذيعة ومقدمة برامج ومحاورة في التلفزيون الياباني، واكتسبت في هذا الإطار شعبية متزايدة ونجحت في تطوير شبكة علاقات واسعة وقوية ومؤثرة، ثم سرعان ما دخلت عالم السياسة، حيث صارت خلال سنوات قليلة من أقوى الشخصيات القيادية داخل صفوف الحزب الليبرالي الديموقراطي الياباني، الحزب الأكثر بقاءً في مقاعد السلطة في اليابان. وبرزت وتعزز دورها وتأثيرها خصوصاً داخل الحزب والحكومة في عهد جونيتشيرو كويزومي، الذي اشتهر بأنه ربما كان رئيس الحكومة الأكثر شعبية في تاريخ اليابان في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. واعتلت كويكي في عهد كويزومي منصبي وزيرة الدفاع ومستشارة الأمن القومي لرئيس الحكومة. 

وحتى خلال الفترة التي خرج فيها الحزب الليبرالي الديموقراطي من السلطة بين انتخابات 2009 وانتخابات 2012، فقد بقيت كويكي شخصية مؤثرة بصفتها عضواً في مجلس النواب من جهة، وشخصية قيادية في الحزب الليبرالي الديموقراطي، أقوى أحزاب المعارضة خلال تلك القترة من جهة ثانية، ولكونها شخصية عامة محبوبة ولها شعبية طاغية لدى قطاعات من الرأي العام الياباني من جهة ثالثة، وذلك في سياق تبنيها قضايا مهمة مثل الحفاظ على البيئة والمطالبة بحقوق المرأة وغيرها.

وخلال تلك المراحل، كانت كويكي، ولا تزال، حريصة على الربط بين الموقع الذي تشغله وبين العمل من أجل تعزيز العلاقات اليابانية - العربية في مختلف المجالات، ومع الدول العربية كافة. فقد كان لكويكي مثلاً دور فاعل في الخروج بفكرة إنشاء منتدى الحوار العربي/ الياباني إلى النور عام 2003 وتبني كويزومي الفكرة والدفع بها مع قادة السعودية ومصر في ذلك الوقت، حيث كان المنتدى مقصوراً على الدول الثلاث. 

لكن المنتدى نظم في تشرين الثاني (نوفمبر) 2007، مؤتمراً موسعاً للتعاون العربي - الياباني استضافته آنذاك مكتبة الإسكندرية وضم أكثر من سبع عشرة دولة عربية إضافة إلى اليابان، وغطى جوانب التعاون بين الطرفين بلا حدود. كذلك، كان لكويكي دورها لاحقاً في بلورة فكرة المنتدى الاقتصادي العربي/ الياباني، والذي وإن كانت دورته الأولى قد انعقدت في طوكيو خلال فترة قيادة الحزب الديموقراطي الياباني للائتلاف الحاكم في كانون الأول (ديسمبر) 2009 بمشاركة الأمين العام لجامعة الدول العربية في ذلك الوقت عمرو موسى، فإن الفكرة ذاتها ظهرت وتطورت بعض مراحلها خلال فترة حكم الحزب الليبرالي الديموقراطي قبل خسارته انتخابات صيف 2009. كما كانت كويكي هي التي أقنعت رؤساء وزراء متتالين لليابان بفكرة تنظيم مأدبة إفطار في شهر رمضان من كل عام على شرف سفراء الدول العربية والإسلامية المعتمدين لدى اليابان.

هذا نموذج واحد ومهم لواحدة من المستعربين اليابانيين البارزين ولبعض الأدوار التي أدتها بغرض تعزيز التعاون وتطوير العلاقات بين اليابان والوطن العربي بما يحقق مصالح مشتركة ومنافع متبادلة، ويمكن ذكر أمثلة أخرى كثيرة، سواء في اليابان أو غيرها من بلدان آسيا غير الإسلامية، وهي بالتأكيد كلها أمثلة تصلح للبناء عليها وتطويرها بما يحقق المصالح العربية على الصعيد العالمي وبما يلبي متطلبات الدعم للقضايا العربية العادلة.


* كاتب مصري