&عبدالله بن بجاد العتيبي&&

استقبل وزير الخارجية السعودي ومعه وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الأسبوع الماضي، ووزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، توبايس إلوود. كيري التقى القيادة السعودية، واجتمع بوزيري خارجية السعودية والإمارات والمبعوث الأممي لليمن، وعقد مؤتمرًا صحافيًا مع نظيره الجبير.

انتهى «اجتماع جدة» بخصوص اليمن إلى استراتيجيةٍ جديدةٍ لمواجهة الأزمة اليمنية ذات شقين؛ سياسي وعسكري، مع حكومة وحدةٍ وطنيةٍ، ولم تتضح بعد الصورة الكاملة لهذا الاتفاق الجديد، فالحديث - مثلاً - عن تسليم الأسلحة لطرفٍ ثالثٍ لم يزل غامضًا، فمن هو هذا الطرف الثالث؟ وما آلية تسلمه للأسلحة؟ ومن سيضمن ذلك؟ هناك أسئلة متعددةٍ.

يمرّ العالم منذ سنواتٍ بما يمكن تسميته «الاستراتيجيات المتحولة»، بمعنى أن المواضعات السياسية الدولية التي سادت العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وأثناء الحرب الباردة وبعد انتهائها بسقوط الاتحاد السوفياتي بدأت تتغير بشكل حادٍ، وأصبحت منطقة الشرق الأوسط تواجه حربًا باردةً جديدةً وحروبًا ساخنةً متعددة، كما سبق أن كتب كاتب هذه السطور من قبل.

أميركيًا، يمكن رصد تحولاتٍ كبرى في الاستراتيجية الأميركية تجاه العالم والمنطقة، ويمكن قراءتها منذ بداية عهد الإدارة الحالية، وذلك في مواقف متعددة تجاه كثير من القضايا، بدايةً من الانسحاب المستعجل من أفغانستان والعراق، الذي كانت له نتائج كارثية، وكذلك في الموقف المتعجل تجاه ما كان يعرف بالربيع العربي، وملفاته المتعددة، تجاه مصر والبحرين كما تجاه تونس وليبيا، ومن بعد تجاه الأزمة السورية والأزمة اليمنية.

«الانعزالية» و«الانسحابية» كانتا شعارًا يقود الإدارة الحالية، وانعزال الدولة الكبرى في العالم التي مثلت شرطيّه لعقودٍ، خلق فراغاتٍ تمددت فيها قوى أخرى دوليًا وإقليميًا، ومن هنا جاء تمدد روسيا مجددًا حول العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، وقد صارت قاعدةً ثابتةً لدى روسيا أن تتمدد ما شاءت لها رغبات القوة، ودوافع بسط النفوذ دون أن تحرك أميركا ساكنًا.

بالطبع ستكون لهذا التوسع تبعاتٌ خطيرةٌ سياسيًا على المستوى الدولي، ولكن هل بإمكان الاقتصاد الروسي أن يتحمل تلك التبعات؟ هذا أمرٌ مشكوكٌ فيه.

إيران الدولة الأكبر لرعاية الإرهاب إقليميًا ودوليًا مستمرةٌ في استراتيجيتها لـ«تصدير الثورة»، وإن غيرت بعض التكتيكات والأساليب، وهي لأجل تحقيق هدفها فتحت قواعدها العسكرية لاستعمارٍ جديدٍ يأتي هذه المرة برضا «الولي الفقيه» ومباركته، وقد رأت كيف أن الإدارة الأميركية هرولت نحوها في موضوع الاتفاق النووي، وهي لا تلوي على شيء، وقد قدمت لها في سبيل ذلك التنازلات تلو التنازلات، حتى بدا كأن أوباما محتاج لإيران أكثر من أي شيء آخر في سياسته الخارجية، فتنازل في الملف السوري مرةً بعد أخرى، وتنازل في الملف اليمني مرةً بعد أخرى، بل بلغت به التنازلات مستوى غير مسبوقٍ حين أقرت الإدارة الأميركية - بحسب هذه الصحيفة - بدفع 400 مليون دولار لإيران، ليس هذا فحسب، بل بدفع مليارٍ وثلاثمائة مليون دولار كفوائد تأخير، بذريعة قضية بدأت منتصف السبعينات بدفع إيران أربعمائة مليون دولار لشراء أسلحة لم تسلمها أميركا لإيران بعد قيام ما كان يعرف بـ«الثورة الإسلامية».

يعلم المتابع والمراقب أن الإدارة الحالية لا تكن كثيرًا من الود لدول الخليج، إن بالسياسات وإن بالتصريحات، ولكن العلاقة الاستراتيجية مع أميركا كدولةٍ عظمى وحليفةٍ أهم لدى صانع القرار الخليجي من توجهات إدارة ما، قاربت شمسها على الأفول، وهي قادرةٌ على حماية مصالحها بنفسها والتعايش مع ضرورات الواقع والرهان على المستقبل.

في هذا السياق وعلى المستوى الإقليمي، يمكن النظر إلى الاستراتيجية المتحولة للدولة التركية، فهي تبتعد عن الناتو ولا تتخلى عنه، وتقترب من روسيا وتعتذر لها وتتوافق معها، وتواصل التقارب مع إيران، وتعيد الاتصال مع إسرائيل، وتتخلى عن المعارضة السورية، وتتدخل عسكريًا في شمال سوريا لمحاربة الأكراد لا لمحاربة «داعش».

عودًا على بدءٍ، ففي الملف اليمني في الأشهر الأخيرة، برز على المشهد أمران رئيسيان: الأول، صواريخ باليستية تنطلق من اليمن باتجاه الأراضي السعودية، تمولها وتوصلها إيران. الثاني، أفواج من الانتحاريين يتجهون يوميًا باتجاه الحدود السعودية، الأول واجهته السعودية بحزمٍ عسكريٍ، والثاني تكتيك إيراني معروف، بدأه الخميني في إرسال «الباسيج» باتجاه الحدود العراقية يحملون في رقابهم مفاتيح للجنة ليلقوا حتفهم بالآلاف، لأن الآيديولوجيا أهم من الإنسان.

في ظل هذه الاستراتيجيات المتحولة والحادة يكون من الواجب قراءتها بحكمة والتعامل معها بالمرونة المطلوبة، لا بمعنى التنازل عن الحقوق والمبادئ، بل بمعنى العقلانية في القراءة والواقعية في التعامل، فالقدرة على فهم المستجدات وقراءة التوجهات تعين على رسم استراتيجيات مقابلة تتصف بالتوازن وبعد النظر.

الوعي بالتاريخ والوعي بالجغرافيا مع التركيز على تحقيق المصالح والتقليل من الخسائر تجعل «الاستراتيجيات المتحولة» ضرورةً لبقاء الدول وتعزيز سيادتها والذود عن حماها، فلا عيب في تحول الاستراتيجيات حين تحكم الضرورة وتتغير المعطيات وتختلف الأسس، بل هي علامة صحةٍ وتطورٍ ومواكبة للأهداف العليا.

يبدو «اتفاق جدة» كأنه الخيط الأخير لإقناع ميليشيا الحوثي وأتباع صالح بجدوى الحل السياسي، الذي أصروا على إفشال محادثاته في الكويت، ولكن هل ثمة ما يمكن أن يقنعهم بذلك في هذا الاتفاق الجديد؟ لا يبدو ذلك ممكنًا، فطريقة تفكيرهم وآليات عملهم ستمنعهم من قبول أي اتفاق، وسيصرون على استمرار السيطرة بقوة السلاح على مستقبل الدولة اليمنية والشعب اليمني.

طريق الحل سياسيًا ودبلوماسيًا مرسومٌ ومتفق عليه في «المبادرة الخليجية» وفي القرار الأممي 2216، و«اتفاق جدة» يجب أن يسير في ذات الطريق، فهل تستطيع أميركا ضمان استجابة ميليشيا الحوثي وصالح لذلك؟ وكيف سيتم إقناع «الشرعية» في اليمن بالتعامل الإيجابي مع هذا الاتفاق؟

ما لا يعرفه كيري هو أن ميليشيا الحوثي ليست فقط أقليةً في اليمن، بل هي أقليةٌ في «المذهب الزيدي» الذي تدعي الانتساب له، وما لا يعرفه هو أنها تمثل النسخة «الزيدية» للإسلام السياسي في نموذجه الشيعي المتمثل بولاية الفقيه، الذي يمثل نسخة رديئة من الإسلام السياسي السني وخطابه وجماعاته ورموزه.

وما لا يعرفه كيري أيضًا هو أن هذه الجماعات هي جماعاتٌ إرهابيةٌ تؤمن بالعنف سبيلاً لتحقيق أهداف السياسة، وهي جماعاتٌ آيديولوجية لا تفهم في السياسة ولا تحسن استخدامها، وهي مقتنعةٌ بجر كل الويلات على الشعوب لأجل أهداف السلطة.&