مجاهد عبدالمتعالي

اللباس (البوركيني) لا علاقة له بالإسلام كدين، فلا يوجد فقيه يجيز للمرأة لبسه للسباحة وسط الأجانب من غير المحارم، فكيف بالأجانب من (الكفار)

إحدى المدن الفرنسية منعت المسلمات من ارتداء لباس البحر البوركيني على الشواطئ العمومية، وبحسب دراستي في كلية الشريعة، وما قرأته في كتب التراث، فإن المسائل الفقهية لا يمكن تجزئتها، وسأشرح بمثال:

الفقه الحنبلي مثلاً الذي ينكر على المرأة كشف الوجه، يشدد على الرجل بالمقابل في السفر إلى بلاد (الكفار) إلا للضرورة، وهنا يتضح الاتساق الفكري للنسق الفقهي غير المتناقض، ولهذا فبمجرد أن ترى امرأة منقبة سترى حمولة فقهية لا تجيز للزوج السفر لبلاد (الكفار) لغير ضرورة، فكيف بسفرها هي للسياحة ولو بمحرم إلى بلاد (الكفار) الممتلئة بالتماثيل العارية، بالإضافة إلى أن المنع في أصله مبني أحياناً على اعتبارات (شبقية) عن إمكانية تلمظ بعض المسلمين شوقاً لما يقرؤونه في التراث ويسمعون به عن جمال وفتنة (نساء بني الأصفر) لو سافروا إلى هناك، فإن الأمر ينسحب أيضاً على ما ستواجهه المرأة المسلمة من فتنة (رجال بني الأصفر)! ولهذا شددت المدرسة الفقهية على الجميع ذكراً وأنثى في السفر، ولكنها تراجعت في العقود الأخيرة وبدأت في طرح حلول خاصة بالرجل تحت ما يسمى (زواج المسفار، ونية الطلاق)، وطبعاً أغلقت الباب في وجه المرأة، فما الذي حصل لنجد المنقبات في أوروبا كل صيف؟ الذي حصل باختصار أن الدين لا علاقة له بالموضوع، لا من قريب ولا من بعيد، كل ما في الأمر صراع هوية وليس صراع دين، فالمسلم الكلاسيكي المتناغم مع نسقه الفكري وفق كامل الحمولة الفقهية لا يجيز لنفسه وعائلته (السياحة) في بلاد (الكفار).

وعليه فمسألة اللباس (البوركيني) لا علاقة لها بالإسلام كدين، فلا يوجد فقيه يجيز للمرأة لبس البوركيني للسباحة وسط الأجانب من غير المحارم، فكيف بالأجانب من (الكفار)، وتبقى المسألة على المستوى الفقهي مستعصية على الحل حتى الآن، باستثناء تخريجات لن تبتعد كثيراً عن تخريجات رضاع الكبير وزواج القاصرات!، وهنا يتدخل ما أسماه باتريك هايني (إسلام السوق)، فإسلام السوق مصطلح ناتج من جهود الاستثمار التجاري في الدين، تحت ما سمي بالأسلمة، بدءاً بما سمي بالبنوك الإسلامية، مروراً بالإنتاج الإعلامي (القنوات الإسلامية)، وانتهاء بساعة اليد التي تذكر بأوقات الصلاة وجهة القبلة، والذي دخلته الصين بقوة، ورأت الرأسمالية في ذلك سوقاً استهلاكية جديدة، وساعد بعض رجال الدين على تسويغ ذلك وتسويقه، وخصوصاً رجال الإسلام السياسي، وعرابوها هم (الإخوان المسلمون)، عبر تحويل (الإسلام) إلى مجرد (ماركة تجارية) تنافس في عالم الماركات مثلها مثل دافنشي وشانيل، لنصل إلى ما كان مستحيلاً قبوله في العقل الإسلامي التقليدي وقد أصبح ممكناً، مثل لباس البحر (البوركيني) لتشارك به المرأة المسلمة في السباحة وسط الرجال والنساء (الكفار العراة).

ولهذا فإسلام السوق الذي لا علاقة له بالدين كحالة روحية خاصة بالفرد، هو في أصله نتاج ارتباك الهوية أمام العلمانية والعولمة، فكان محاولة للتماسك الحضاري من قبل عوام المسلمين، وذكاء تجارياً بحتاً للتسويق من قبل تجار الإيديولوجيا الإسلامية، لتجد حتى الشركات (الكافرة) الصينية والأميركية تحاول المنافسة في هذا السوق الجديد.

الغرب ليس فاعلاً دائماً فقد بدأت تغزوه أيضاً موجة من التجارة الروحية من ديانات الهند الوثنية وخصوصاً البوذية، عبر دروس الرياضة الروحية للباحثين عن السكينة والطمأنينة، وعبر المنتجعات التي توفر مثل هذه النقاهة بأسعار مغرية، ومن حق (إسلام السوق) أيضاً أن ينافس في هذا البازار العالمي، أما الدين الحق فمسألة لا علاقة لها بكل هذه المنتجات الاستهلاكية التي تنتجها آلة الرأسمالية المتوحشة التي أحالت كل الأديان بما فيها المسيحية، إلى مجرد سلعة تجارية، ويبقى الدين لله رغم أنف تجار الأديان والفقهاء الآبائيين.

باختصار الشيخ السميط، رحمه الله، ولأنه ليس تاجراً في إسلام السوق، فقد أمضى حياته في إفريقيا السوداء طبيباً وداعية حب وسلام، وأما رجال إسلام السوق الشرهون فلا يناسبهم سوى تبادل المنافع التجارية باسم الدين في أرض الرأسمالية المتوحشة شرقاً وغرباً.

ما حصل في فرنسا من منع ومن ردود مقابلة، جميل وفاتن، لأن هذه الجدلية ستعيد سؤال الهوية طازجاً على فرنسا، لتبحث في إرثها الحضاري، وتعيد النظر في الثقوب الفكرية التي دخل منها من يعيش بين ظهرانيهم وهو يراهم كفاراً مهدري الدم والمال.

عندما صارت التفجيرات في مساجدنا حصلت جدلية فكرية أعادت علينا سؤال الهوية التي نريدها، وبدأنا البحث من جديد في تراثنا القديم لنعيد النظر في الثقوب الفكرية التي يدخل منها من يعيش بين ظهرانينا وهو يرانا ويرى رجال أمننا مهدري الدم والمال.

من حق فرنسا الترافع عن هويتها، بسن الأنظمة التي تراها مع إعادة سؤال الهوية على نفسها من غير إفراط ولا تفريط في قيمها، عبر الحرية في النقاش الإعلامي لهذه القضايا، ليشعر المواطنون الفرنسيون بأنهم يعيشون بطمأنينة تليق بهم، لا يخافون في مهرجاناتهم واحتفالاتهم من (مسلم معتوه) ليس مبرره سوى أنهم (كفار).

ومن حق السعودية أيضاً الترافع عن هويتها، بسن الأنظمة التي تراها مع إعادة سؤال الهوية على نفسها من غير إفراط في قيمها ولا تفريط، عبر الحرية في النقاش الإعلامي لهذه القضايا، ليشعر المواطنون السعوديون بطمأنينة تليق بهم وبوطنهم، لا يخافون في مهرجاناتهم واحتفالاتهم من (مسلم معتوه) يرى ما يفعلونه كفراً وزندقة.

وفي سقف الحرية الإعلامية المتاح شرقاً وغرباً، لنقاش القضايا يكمن التنافس بين الدول، وتتجلى الحضارة الأرقى، والمدنية الأقدم، ومن قرأ لمونتسكيو (روح القوانين) المكتوب قبل ثلاثمائة سنة سيدرك معنى الأثر الذي تدين به البشرية لمثل هذه العقول العظيمة، فكيف نضع صورة رجل من طالبان يضرب امرأة ونقارنها بصورة رجال أمن فرنسيين يحيطون بامرأة البوركينو على الشاطئ الفرنسي، ظلم للعقل والمنطق أن نضع صورة لوح الكتاتيب الخشبي بجوار صورة آيباد ثم نسأل عن الفرق باستنكار، وكأن لا فرق بينهما، والعار الحضاري أمام الدول المتقدمة لا يعالج بهذه الطريقة الفجة، وردم الهوة بيننا وبين الغرب والشرق بأن تكون قوانين أرضنا محلاً كريماً لرغبة البشرية أن تأوي إلينا هرباً من ظلم بلدانها، وما عدا ذلك فقص للصور ولصق، لا يغير واقعاً ولا يبني نهضة.

&