&محمد المزيني&

لن أتحدث عن تعاسة الأزواج، ولا عن الزوجات المترنحات تحت وطأة الحياة بعاداتها وتقاليدها حد البؤس المفضي إلى بوابات الاكتئاب، لن أتحدث عن الأوقات الفارغة المهدرة بلا معنى تلك التي أوقفت حياة الإنسان على روتين يومي ممل، ولا عن الشباب الباحثين عن الشهرة السريعة في مواقع التواصل الاجتماعي، أو الفتيات الباحثات عن حبيب منتظر، لن أتحدث عن فواتير الكهرباء والماء التي انفجرت أرقامها فجأة بما لا يقبله العقل، لن أتحدث عن قيمة الإنسان الهامشية في بعض مستشفياتنا حتى بات موته وحياته سيان لا يحدثان فرقاً، لن أتحدث عن القتل المجاني لأسباب غبية وتافهة، ولا عن الأعداد المهولة لضحايا السرعة والتفحيط بسبب فوضى غياب الوعي المروري، لن أتحدث عن الإرهاب الذي فجعنا بأبنائنا المغرر بهم لأسباب مركبة نسهم في جزء كبير منها، لن أتحدث عن الوعاظ الذين ملؤوا أسماعنا بالقيل والقال من التراث وحكايات الزمان والمكان، لن أتحدث عن بلايين الريالات التي تصرفها دولتنا الرشيدة من أجل نهضة هذا البلد ومواطنيه ثم لا نقابل كل هذا بالشكر والحمد اللائق به بالمحافظة عليه، فكل هذا معروف بالوقائع الحية.

سأتحدث عمّا هو أهم من ذلك بكثير، لأنه نتيجة حتمية لعلاقتنا بطبيعة الأشياء وخصوصاً البيئة التي تحتضننا.. سأتحدث عنا نحن كأمة عظيمة نفاخر بأمجادنا وتاريخنا في كل المناسبات.. أمة الإسلام ذات الرسالة الأممية العالمية بأخلاقها ونظافتها المقترنة بإيمانها الذي يختصره حديث الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «الإيمان بضع وسبعون شعبة فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»، هذا هو مختصر جامع مانع لمعنى أن تكون مسلماً بحق لينظر الناس إليك وفق أخلاقك التي علمك إياها دينك، التي من أدناها (بمعنى أقلها وأبسطها) إماطة الأذى عن الطريق، بمعنى أنك تقوم وفق هذا المفهوم الشمولي للدين العظيم الذي لم يترك لنا شاردة ولا واردة إلا حثنا عليها، ومنها النظافة في البدن والسكن والطريق قولاً وعملاً بالإسهام في تنظيف الطريق. نتصور أن كل مسلم حقيقي يقوم بهذه الممارسة التي تعبر عن كينونته الدينية وهويته الإسلامية، ليرى من هذه النافذة عضواً صالحاً في مجتمعه مؤمناً بقيمه، بهذا تتشكل مفاهيمنا الكلية للدين الذي لو جسدناه واقعاً في حياتنا لأصبحنا أرقى أمة على وجه الأرض، وبدونا مثار إعجاب وفخر يكسبنا قيمة عالمية عليا بين الشعوب التي تمثلت قيم الإسلام بلا إسلام، فنحن للأسف يحلو لنا تجزيء الدين، فنأخذ منه ما يروق لنا وندع ما لا يروق لذواتنا الأنانية العليا، وكي لا أعمم أقول: أغلبنا لا يتنازل قليلاً وينصاع لأخلاق الدين، ومع ذلك تجد هذا البعض المفرط يحامي بكل ما تمتلئ به حنجرته من صراخ عن الدين حتى لو خسر أقرب الناس إليه، لكنه يخسر نفسه أمام أدنى «شُعب الإيمان» بتخاذله عن إماطة الأذى عن الطريق، وليته يكتفي بذلك لالتمسنا له الأعذار، فقد نراه لأنفسنا متعمداً ترك مخلفاته في الطرقات العامة أو في المتنزهات والحدائق العامة بلا وازع ديني أو حتى نفسي.

هل رأيتم أكوام النفايات تتكدس في متنزهاتنا الجميلة التي حبانا الله إياها من دون حمد منا أو شكر؟ اذهبوا إلى صحراء الرياض القريبة (مكاشيت الرياض) الثمامة وغيرها، لن تصدقوا وأنتم ترون هذه الصحراء الجميلة بألوانها الساحرة تتنفس برائحة القاذورات وتنام تحت أكوام النفايات الملفوفة بأكياس البلاستيك المؤذية للبيئة، برأيكم من يقوم بهذا العدوان السافر الهمجي على بيئتنا بأساليب متخلفة وغير مسؤولة حتماً نحن لا غيرنا، بالله ما هي الصفة التي تليق بنا؟ مجتمعات غير نظيفة؟ فهل ترضون أن نوصف بمجتمعات غير مسؤولة؟ ألا نشعر بالخجل من أنفسنا؟ ألم يصل إلينا الحياء من الله ثم من أنفسنا؟! هل هذا ما يعلمنا إياه ديننا الذي نتبجح بالدفاع عن قيمه ونحن لا نتمثل أقل القليل منها؟! هل هذا ما نلقن إياه في المدارس التي للأسف لا يخرج أبناؤنا منها ساعة الظهيرة إلا وهي مزرعة قاذورات بلا حسيب أو رقيب أو أدنى استشعار لمعنى النظافة؟ أين كل هذا التعليم والتربية؟! أين أسابيع النظافة؟ لله در تلك الأيام الجميلة التي للأسف وضعت في حيز «زمن الطيبين»، وهم إزاء ما يحدث اليوم يستحقون صفة النظيفين، ليت إعلامنا يقوم بدوره الذي كان يقوم به قبل أكثر من 30 عاماً، فلمَ توقفت رسائل الحث على النظافة؟ ليت وعاظنا الذين شاغلونا ردحاً من الزمن بالموت وما بعده علموا شبابنا المنساق لهم فقط معنى النظافة ودربوهم على إماطة الأذى عن الطريق كما علموهم أدعية المجالس ودخول الخلاء والنوم والاستيقاظ، ليت خطباءنا الذين يعتلون منابر الجمعة كرسوا أوقاتهم لتدبيج خطب على مقاس حاجاتنا الأخلاقية المرتبطة بالإيمان كي لا يخرج المصلون وهم يثخنون أوداجهم بالبصاق إحماءً لرشقها على الأرض ثم يلحقونها بعلب المياه أول ما تطأ أقدامهم عتبات الخروج من المسجد. ليت مثقفينا وأدباءنا علموا هذا الجيل المتفتح على كل شيء كيف يتعاملون مع البيئة من حولهم، ويرونها بشيء من الاحترام فهي انعكاس لكل ما يحدث من حولنا، فلو أحببناها لأحببنا أنفسنا وهذبنا من أخلاقنا قولاً وعملاً، كل ما نحتاجه كي ننظف هو إشاعة قيم النظافة والتدريب على ممارستها وحمل أدواتها في الحل والترحال، فهل نفعل كي ندفع عنا تلك الصفة المشينة؟

&