&حازم الأمين

&للمسيحيين في لبنان قدرة على تحويل الوقائع الثقيلة التي تحف بوجودهم إلى فولكلور. على هذا النحو دخلت «داعش» على خط العلاقة بين «الصبية والجرة» التي اختصر فيها الرحابنة الخرافة اللبنانية حين كانت لا تزال تشتغل في الستينات والسبعينات.

أما السنّة اللبنانيون فغارقون بين التضخم الديموغرافي وهزال الزعامة وهشاشتها، ويعيشون على وقع ولادة جديدة قد تكشف مارداً يأتي على كل شيء، فيما قيادتهم تترنح بين الانسياق لهزائم الإقليم والهذيان بفكرة الوجود الأولى.

هكذا مثلاً يذهب رئيس الحكومة السني تمام سلام إلى الأمم المتحدة مزوداً بهذيان العونيين الديموغرافي، وبفكرة عن لبنان ودور السنة فيه لم يعد لها أثر، فيما يتولى الغريم الجديد أشرف ريفي الدفاع عن «كرامة» الطائفة ووجدانها المهدور.

الشيعة يعيشون خارج الحدود تماماً. هم يحكمون لبنان وعينهم على الخارج. لا شيء يُخاطبهم في هذه التجربة. لا بأس بتكليف العونيين مهمة صيانة أرزة لا يؤمنون بها، وبإطلاق وعد لسعد الحريري بأن يُصبح رئيس حكومة إذا ما وافق على ميشال عون رئيساً للجمهورية، وهم يعرفون أن لا عون يصلح للرئاسة ولا الحريري للحكومة. لبنان بلد يلهون فيه، وهم كطائفة إقليمية يشعرون بخفة العيش وبأنهم في فندق ينتظرون فيه الخرائط الجديدة. وربما تصلح هنا طُرفة مغترب قَدِم إلى لبنان هذا الصيف مع أطفاله، ولاحظ سعادة أطفاله بقدومهم إلى بلدهم، على رغم الاختناق على كل المستويات، فقال: «لا أحد سعيد في لبنان إلا الأطفال والشيعة».

وهنا علينا أن نُذكر بأننا نعني بالمسيحيين والسنة والشيعة الكيانات السياسية والوجدان السياسي لهذه الجماعات، وليس الأفراد. ذاك أن الأخيرين وفي ذروة انخراطهم في وجدان طوائفهم ضحايا هذا الضيق وهذا الاختناق، ويكابدونه على نحو يومي.

لكن عاملاً جديداً أضيف إلى هذا الكوكتيل المذهبي الانفجاري. إنه اللاجئون السوريون الهاربون من حرب بلدهم، والذين يشكلون ككتلة ديموغرافية نحو ثلث لبنان.

ولا بأس بأن نعاين هذا المتغير من موقع يتيح رصد مواقع الجماعات اللبنانية الثلاث. عدة المسيحيين للتعامل مع هذا الاستحقاق عبر عنها وزير الخارجية جبران باسيل عبر اقتراحه بيع موسم التفاح اللبناني الكاسد بفعل إقفال الحدود إلى المنظمات الإنسانية الراعية للاجئين السوريين. وقبل هذا الاقتراح قال إنه مع قانون يمنح المرأة اللبنانية المتزوجة من غير لبناني حق إعطاء أولادها الجنسية، على أن تُستثنى منه المتزوجات سوريين وفلسطينيين. وهناك مظاهر أخرى للتعاطي المسيحي مع النازحين لا تقل مفارقة عن حكاية التفاح. فقد تشكلت ميليشيا كشفية في بعض المناطق المسيحية أطلق عليها اسم «حُماة الديار» مهمتها تحصين الساحة الداخلية في وجه «داعش»، ويبدو «داعش» في رواية هذه الميليشيا أقرب إلى «راجح» عند الرحابنة.

السنّة المتهمون ضمناً بأنهم الوعاء المذهبي للاجئين السوريين، شعرت قيادتهم بضرورة أن تدفع عن نفسها التهمة فتحول رئيس الحكومة حاملاً لملف إعادة اللاجئين، وردد وزراء الطائفة تصاريح تدفع عنهم شُبهة الاستثمار بالديموغرافيا الجديدة، فكشف ذلك عن حقيقة أن الطائفة تعيش حالاً من اليُتم أين منها حال المسيحيين في التسعينات، مع فارق جوهري هو أن اليتم السني مترافق مع تضخم هائل في الوجود والحضور الذي يبدو أن أشرف ريفي، الغريم الشمالي، يستثمر فيه إلى أقصى الحدود.

«الشيعية السياسية» تراقب هذا المشهد من مسافات متفاوتة. المهمة في سورية تُملي كل تفاصيل الدور المُناط بهذه الجماعة. لا رئيس في لبنان بانتظار تغير المشهد السوري، وملف اللاجئين أيضاً موصول بالوقائع هناك. وهذا غير مُعبر عنه بالخطاب الرسمي، إنما بالممارسة اليومية. فقد استنتجنا أن حزب الله لا يريد رئيساً عندما تقدم إلى المنصب مرشحان هم من أكثر حلفائه التصاقاً بمشروعه، ومجيء أي منهما سيمثل انتصاراً له. ووجد الحزب طريقاً للتفلت من هذا المأزق بأن قال «أريد ميشال عون ولا أحد غيره للمنصب».

ووفق معادلة النظر إلى ما يُخفيه الخطاب العلني علينا أن نُفسر موقع حزب الله من مسألة اللاجئين السوريين. فالمنطق يقول إن وجود هؤلاء يُرجح ديموغرافياً كفة الخصم المذهبي، ويقول أيضاً إن مهمة الترانسفير التي يتولاها الحزب في ريف دمشق، والتي قطع أشواطاً في الطريق إلى إنجازها، ستنقلب عليه في لبنان. فهو باشر إبعاد السنة السوريين عن دمشق لكنه ألقى بمعظمهم بالقرب من معاقله الأولى في لبنان، فغير معطيات ديموغرافية سيكون لها ارتدادات على مشروعه في لبنان وسورية.

الفرصة أمام الحزب متاحة اليوم في لبنان لمواجهة هذا المأزق. ثمة مسيحيون يُمكن الاستثمار بقضيتهم، ورأي عام عالمي تُخاطبه المخاوف الأقلية، وطائفة سنية مصابة باليتم ومُتنازَعة بين الشيخوخة المبكرة للزعامة الحريرية ورعونة زعامة موازية تسعى للوراثة.

على نحو مفاجئ قفزت قضية اللاجئين السوريين في لبنان إلى الواجهة. ثمة وقائع يومية تشهدها المناطق والأحياء، وصدامات بين شبان متشابهين، وخطاب محتقن، ووسائل إعلام كانت إلى الأمس القريب تُصور آل زعيتر في حيهم في شرق بيروت على أنهم الغرباء الأشقياء، لكنها اليوم وبعد اصطدامهم بالعمال السوريين صاروا بعرفها «حراس الأرزة ومسمديها». وبما أن المرء يجب أن يُضمر سوء النية حيال خُبث الطوائف وتقيّتها، وحيال تزايد الصدامات الشارعية وظهور تشكيلات شللية قد تكون مقدمة لتشكيلات قتالية أوسع، فإن المهمة المنوطة بهذا المشهد والتي يجب تخيلها ستكون لمن يملك مشروعاً لها.

نقل اللاجئين السوريين من لبنان إلى شمال سورية فكرة قد تلوح لكثيرين. فلحزب الله تلبي هذه الخطوة مهمة الترانسفير التي باشرها في ريف دمشق وعلى الحدود اللبنانية السورية، والتي لن تستقيم في حال وجود النازحين في لبنان. وثمة أكثر من تجربة ناجحة وإن كانت أصغر على هذا الصعيد، فالتبادل السكاني بين الزبداني والفوعة سبق أن جرى، وبرعاية دولية، ونُقل من تبقى من أهل داريا إلى محافظة إدلب أيضاً من دون ضجيج كبير.

المهمة أكبر في لبنان، ولهذا قد يكون ما ينتظرنا حتى تتحقق وحتى تنتزع رعاية دولية، خطوات دموية يشعر معها العالم أن الخسائر من دونها ستكون أكبر.