مجاهد عبدالمتعالي&&

التكنوقراط إن لم يملك حسا ثقافيا فهو عدو المثقفين، والمثقف الحقيقي يعرف أن الواعظ الذي يتلاعب بعواطف الناس، أقل خطرا من التكنوقراط الذي يدافع رياء عن مناهج يقررها في المدارس الحكومية والجامعات الوطنية ولا يرضاها لأبنائه

التكنوقراط ليس مثقفا بالضرورة، ولكنه يتقن قاموس المثقفين ليختبئ بينهم، وما أكثر المختبئين، وهنا إشكال يواجه المثقف في التعامل مع هؤلاء التكنوقراط من المثابرين الذين يتأبطون سيرة ذاتية مذهلة منذ دراستهم التمهيدية حتى حصولهم على أعلى الشهادات الأكاديمية، وما زالوا يمارسون عملهم الحكومي ونشاطهم الاجتماعي بنفس المثابرة والذكاء المدرسي، مختبئين في عباءة المثقف التكنوقراط، لكنهم عاجزون عن صناعة الفرق، ولهذا لا نستغرب غازي القصيبي، إذ كان استثناء بين الوزراء التكنوقراط، لأنه كان مثقفاً أولاً ثم تكنوقراط ثانياً، وفي تتبع سيرة حياته نجده يعيش حالة المثقف ليصبح دكتوقراط في وجه التكنوقراط، فيصفهم بالجمود والبيروقراطية، كان يحلل الظواهر السياسية والاجتماعية بصفته مثقفاً أولاً، لكنه يضع الحلول بصفته مزيجاً من كليهما، وهنا تتجلى التركيبة الخاصة لظاهرة غازي القصيبي.

لماذا نصر على ضرورة الحد الأدنى من الحس الثقافي في صفوف التكنوقراط؟ لأن التكنوقراط يختبئ وسط المثقفين كأنه منهم، دون أن يمتلك حسهم، إذ تكمن أهمية المثقف في وجود الحس الإنساني والذكاء الاجتماعي الذي يحول بينه وبين الضحك ساخراً ممن يطلب مستشفى في مدينته البعيدة بنفس مواصفات مستشفى العاصمة، التكنوقراط يقهقه لأن مفاهيمه تستجلي الفجوة الإدارية والفنية بين الكلام والواقع فتحدث عنده مفارقة الضحك، بينما المثقف يشعر بالأسى والرغبة في المواساة، لأن مفاهيمه تستجلي الأمل الإنساني في ردم الهوة ما بين (يا ليت) والواقع.

التكنوقراط (الفاسد) أخطر على المثقف من الواعظ (الماكر)، التكنوقراط مصاص دم، إن لم يجد صحافة حرة تردعه، سارق رؤى التنوير دون إيمان حقيقي بها، يستطيع أن ينزع دسم الغذاء الثقافي والفكري والاجتماعي من كل مشروع يطرحه المثقف من أجل عقول الناس وقلوبهم، ليبقى العمل الثقافي والفكري والاجتماعي جسداً فاخراً من مرمر مصقول، لكنه بلا روح، كثير من التكنوقراط خياطون مهرة للقانون كي يناسب مقاس رغبتهم أو رغبة من ورائهم، ولهذا كانت الصحافة في العالم ترفع رايتها كسلطة رابعة على رؤوس هؤلاء التكنوقراط تعرية وكشفاً لزيفهم ومراوغاتهم وعجز إمكاناتهم وفشلهم، التكنوقراط بلا روح وطنية، مجرد خياط حسب الطلب، التكنوقراط إن لم يملك حساً ثقافياً فهو عدو المثقفين، والمثقف الحقيقي يعرف أن الواعظ الذي يتلاعب بعواطف الناس، أقل خطراً من التكنوقراط الذي يدافع رياءً عن مناهج يقررها في المدارس الحكومية والجامعات الوطنية ولا يرضاها لأبنائه فيضعهم في المدرسة الخصوصية ثم يلتحقون بالجامعة الغربية. إن الواعظ يتلاعب بالعواطف، لكن التكنوقراط يتلاعب بالعقول ومصائر الشعوب عبر مشاريع هدفها الاستنفاع لا النفع العام، التكنوقراط بلا ضمير يتجاوز خطره الطبيب بلا ضمير، فالطبيب بلا ضمير ضحاياه حالات فردية، والتكنوقراط ضحاياه أجيال يقرر عليها مناهج دراسية بليدة، وجماعات يوهمها بخطط مدنية مذهلة ومن لا يريد أن يفهم فعليه أن يتذكر سيول جدة القديمة، وبعدها جاءت هيئة مكافحة الفساد المسكينة التي أثقلها (البحث عن الفيل).

في حكاية عن إمبراطور صيني زار إحدى القرى النائية ثم سألهم ما الذي ينقصهم، فطلبوا منه فقط أن يرسل لهم رجل دين يصلي بهم ويدعو لهم كي يخف الفيضان هذه السنة، فلا يغرقهم، فكرر سؤالهم: هل يحتاجون شيئاً آخر غير إرسال رجل الدين فشكروه وذكروا له أنهم بأحسن حال، وهنا نكتشف دور المثقف الذي قد يعترض عليه بعض أهل قريته، فالمثقف لو وجد بين أهل القرية لطلب إنشاء سد يمنع فيضان النهر واجتياح المنازل كل عام، ولطلب مدارس يتعلم فيها أبناء قريته، ولطلب شق الطرق ووصول الغذاء والدواء لأبناء قريته، وأحياناً سيفاجئنا رجل الدين الذي أرسله الإمبراطور وقد انبرى لهذا المثقف ليذكر أهل القرية أن تعليم أبنائهم سيجعلهم يضيعون دوابهم فلا يجدون من يرعاها، وسيتعلمون السفر للعاصمة وترك آبائهم وحدهم، بينما هو كرجل دين سيعلم أبناءهم أفضل الأدعية التي تحميهم من الفيضان، وسيعلمهم كل الطقوس اللازمة التي تزيد بركة دوابهم والثمار في مزارعهم، وسيعمل على علاجهم بلا أدوية من العاصمة، فعنده محل عطارته المتنقلة مع النفث والكي إن لزم الأمر، أما التكنوقراط الفاسد فسيبني السد بمواصفات فاسدة لا تمسك الماء، وسيفتح المدارس بالتحالف مع رجل الدين لتخريج دراويش عبر مناهج ضعيفة لا يستطيعون بها منافسة العالم، وسيرسل أدوية فاسدة ليشك الناس في نجاعة الأدوية فيعودون لمحل عطارة الواعظ، وسيشق الطرق بمواصفات تستدعي الصيانة الدائمة، كي يقتات على مدخرات أبناء جلدته، فهل عرفنا مقدار خطر التكنوقراط الفاسد، أما أصحاب الضمير الحي والبصيرة الثاقبة، في سبيل النهضة، لمشاركة العالم المتحضر سباق الحق والخير والجمال، فهم عماد الدول التي صنعت الفرق، والذباب الواحد قد يراه المثقف يقع على الجرح فيهشه بكلمة هنا أو صرخة هناك، لكن إن كثر الذباب فالجرح مكشوف وقد امتلأ قيحاً وصديداً، حمى الله بلاد العرب من الغرغرينا.

&