&غسان الإمام&

يثبت الإنسان المعاصر يوما بعد يوم أنه شديد الخطر على البيئة والطبيعة. فأنت تنتج، بمعدل وسطي يومي، نصف كيلوغرام من النفايات الملوثة للبيئة في مدينتك. أو قريتك. فيما تنتج المصانع الكبرى التي انتقلت من المدن إلى الريف أطنانا وأطنانا، من الغازات والأشعة السامة. والنفايات السائلة والصلبة الملوثة للهواء. والتربة. والأنهار. والمحيطات.

سكنت أسرتنا الدمشقية، في مقتبل عمري، في ضاحية المزة. ضاحية شديدة الخضرة. وكان يرويها فرعان لنهر بردى. ولاحظت مع الأيام أن جدولا من السوائل المنطلقة من مستشفى المزة العسكري يقطع مسافة 400 متر في العراء، ليصب في النهر الأقرب إليها الذي يسقي القرية، ومزارع الصبار المجاورة لها.

ذلك النهر الصغير اسمه «القناة». وهو نهر عجيب يشق طريقه في أعماق الروابي والجبال، منذ افتراقه عن بردى، كقناة ضيقة من صنع الطبيعة. عميقة أحيانا. وسريعة الجريان. وكان من النقاء والصفاء، بحيث تعود سكان قرية المزة أن يشربوا منه. بالإضافة إلى شربهم من قناة المياه الصحية التي مُدَّت بأنابيب إلى دمشق وضواحيها، من نبع الفيجة الجبلي.

كان أهل قرية المزة أناسا أمناء. شرفاء. سكنتهم الشهامة. والأدب. والتهذيب. وهم على حال من اليسر والثراء، بحكم استغلالهم لمزارع الصبار والفواكه المثمرة في أراضيهم المشجرة المجاورة للقرية. لكن ما أدهشني فيهم أنهم وبلديتهم صامتون عن الجدول المكشوف الذي ينطلق من المستشفى العسكري، بسمومه وروائح العقاقير الطبية المستخدمة في معالجة المرض، وإجراء العمليات الجراحية، ليصب في مجرى القناة (الأناية بالعامية السورية) التي يشربون منها!

بعد سنوات، غادرنا المنزل الرومانسي عائدين إلى مدينتنا دمشق. لكن جارنا الدبلوماسي الفرنسي الذي يسكن الطابق الأرضي في المبنى ظل فيه. فقد كان متعلقا بشاعرية النهر (القناة) الذي يخترق المنزل. وبرومانسية الربوة المجاورة المطلة، في منظر جميل رائع، على فروع نهر بردى السبعة التي تعبر المضيق الجبلي، لتتوزع في المدينة. بعضها في قنوات تروي المنازل منذ ألوف السنين. ثم تخرج لتروي غابتها المثمرة (الغوطة) التي دمرها حاليا نظام بشار بغارات البراميل المتفجرة فوق أطفالها وأهاليها.

اختفى الآن أهل القرية. فقد ابتلعتهم غابة الإسمنت العارية المنطلقة من المدينة. ويكاد أن يختفي بردى. فقد جفت معظم فروعه، بما فيها تلك «القناة» التي كانت تسممها مياه المستشفى العسكري.

أين ذهب أهل القرية؟ لقد امتزجوا مع أهل المدينة الزاحفة على الضواحي. لكن لماذا لم يشكوا إلى الحكومة الجدول الذي سمم مياههم. وصحتهم. وزراعتهم؟ إنه الجهل بالحقوق المدنية. ثم الخوف من العسكر الذين استولوا على السياسة. وأخضعوا القضاء لمشيئتهم. وعبثوا بالبيئة. وموارد الطبيعة. فقد حفر الـ«نوفوريش» من العسكر وأهاليهم الذين غزوا دمشق وضواحيها بكثافة، الآبار الارتوازية على منابع بردى (وهو أصلا نهر صيفي يغزر في الشتاء. ويكاد يجف صيفا)، لري المزارع التي أقاموها على طول مجراه.

تلوث البيئة في قرية المزة. وألوف القرى في وادي بردى والعاصي في سوريا، يحدث ما يشابهه في العالم كله، لا سيما في البلدان الفقيرة في آسيا. وأفريقيا. وأميركا اللاتينية. غابات الأمازون تفقد خضرتها. وأشجارها. وحيواناتها، بفعل اعتداء التقنية المنظم عليها. مات مائة ألف إندونيسي بعدما دمرت الآلة غاباتهم ومزارعهم. وأفسدت نقاء المياه عليهم. فقد نهر الدانوب أسماكه، بفعل السموم الصناعية التي تقذف بها مئات المصانع المنصوبة على ضفاف النهر، في بلدان أوروبا الشرقية.

في الضاحية الباريسية التي أسكنها، قطعت البلدية أشجار الشارع الرومانسي، لتقيم «باركينغ» تحت الأرض. زادت البلدية ضريبة السكن لتمويل عملية التعرية. اختفت البلابل المغردة في الصباح. ولحقت بها الحمائم التي تسكن الأشجار. مع ارتفاع درجة الحرارة الناجمة عن الابتعاث الحراري في العالم، للاستمرار في إحراق الفحم الحجري. والنفط. بات صخب الـ«ترافو» في الشارع لا يطاق.

لا تبحث عن الهدوء والسكينة في شوارع أوروبا. فقد غصت بالسيارات الصغيرة. في باريس وحدها، تعمل 18 ألف سيارة «تاكسي». عندما كان بوريس جونسون وزير خارجية بريطانيا الجديد عمدة لندن، فرض رسوما على السيارات الصغيرة التي تدخل قلب المدينة (داون تاون) ليخفف الازدحام الذي يعطل المرور.

بعد انهيار الأنظمة الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، غصت العواصم الهادئة بصخب السيارات. كانت الباصات تكفي لنقل السكان والعاملين. يكاد كل ساكن في منطقة الـ«إيل دو فرانس» التي تزنِّر باريس، يملك سيارة له. وأخرى لزوجته. وثالثة. ورابعة. وخامسة، لكل من أبنائه وبناته. هؤلاء يتوجهون إلى باريس في الصباح. تصوّر ازدحام طوابير السيارات. وحوادث المرور على الطرق المحيطة بالمدينة.

يحدث ذلك في مدن وعواصم العالم العربي. هناك عجز تام عن تنظيم المرور في بيروت. والقاهرة. والدار البيضاء. وبعض مدن الخليج. مع انتقال ألوف المصانع الغربية إلى الدول الفقيرة، حيث العمالة الرخيصة، ازداد تلوث البيئة. والطبيعة. في بنغلاديش، دمرت الحرائق مصانع أقمشة «الجوخ». فمات مئات العمال المغلقة عليهم مصانعهم الرديئة التهوية. وشبه الخالية من موانع الحريق.

الدبلوماسية الآسيوية تسعى الآن لمنح مئات الألوف من عمالها العاملين في دول الخليج ضمانات اجتماعية. بينها الإقامة. والعمل. وربما التجنيس. وافتتاح شركات أعمال، الأمر الذي يهدد عروبة الخليج واستقراره. وسلامة بيئته. إيران تناصب دول الخليج العداء، فيما يعمل فيها عشرات ألوف العمال والتجار الإيرانيين.

هل نستغني عن الابتكارات العلمية. والصناعية المتواصلة للتقنية، لوقف إنتاج ملايين السلع التي نستخدمها في حياتنا اليومية؟ هل الابتكارات المذهلة التي رفهت حياتنا أغلى وأعز علينا من الطبيعة والبيئة اللتين تدمرهما تقنية الإنسان المعاصر؟

الصراع مستحكم بين الطبيعة والتقنية. هناك ظواهر ثابتة لتمرد الطبيعة على عوامل الحت والتعرية التي تغتصبها. الطبيعة تطلق الآن جبال الجليد في القطبين الشمالي والجنوبي، فتفقد الدببة. والفقمة. والطيور مأواها. ويرتفع مستوى البحار والمحيطات، لتبتلع الفيضانات والطوفان خلال هذا القرن مدن الشواطئ. والدول التي تسكن جزر المحيطات. سخونة سطح المياه تشكل الأعاصير العاتية التي تروع الولايات المتحدة. والهند. وبنغلاديش. واليابان. والفلبين. وتايلاند..

كان سيدنا نوح رقيقا بالإنسان والحيوان؟ هل أحفادنا سيعيشون على ظهر سفن ومراكب بعدما يختفي البر؟ ماذا نفعل بملايين القطط. والكلاب التي تعيش في بيوتنا. فتخفف آلام الوحدة عن ملايين العجائز اللواتي دفنَّ أزواجهن. وعشن بعدهم عشرين سنة، مع تحسن تقنية الصحة الوقائية؟

قبل سنين قليلة، نشرت بريجيت باردو إعلانا مصورا لقطط وكلاب. ثم أتبعتها بصورة محزنة لهذه الحيوانات الجميلة. وهي نائمة نومتها الأبدية. فقد خنقها غاز التقنية التي ضاقت بكثرتها.

&&

&