يوسف أبا الخيل&

لا أتحدث هنا عن النزعة الفردية بمعناها الفلسفي الدقيق، بقدر ما أتحدث عن نزعة فردية قرآنية متمثلة في تربية فرد مسؤول عن أفكاره وأخلاقه وتصرفاته؛ لا يعول في أفكاره وتقييماته على مقولات هذا الرمز، أو ذاك؛ فهو بما حباه الله من عقل واستقلالية فكرية، قادر على تقييم الآراء والأفكار والسلوكيات؛ وكل ذلك يأتي في إطار الحفاظ على وحدة الجماعة، سياسيا بالذات.

&

لقد جاء القرآن الكريم معززا للفردية، مطلقا للاستقلالية من عقالها الجمعي؛ فكان أن ركز على مسؤولية الإنسان بصفته الفردية عما يأتي ويذر؛ قال تعالى: "وكلهم آتيه يوم القيامة فردا"؛ وقوله تعالى: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا. إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها"؛ وقوله تعالى: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى. وأن سعيه سوف يرى"؛ وقوله تعالى: "من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى".

&

إن الثقافة العربية في عمومها، سواء منها قديمها أو حديثها، لا تدعم النزعة الفردية، بقدر ما تدعم الاندماج في ثقافة وقيم الجماعة، بما فيها من تذويب لشخصية الفرد، وجعله مجرد انعكاس للبنية الثقافية لتلك الجماعة.

إن من أبرز مظاهر النزعة الفردية أن يملك الفرد عقله ثم تفكيره، بحيث لا يكون لأي فرد، أو جماعة سلطة عليه. امتلاك الفرد لعقله وتفكيره يجعله مالكا لتقييم الآراء والقيم والأفكار والأشخاص بنفسه دون وصاية، أو توجيه من أي سلطة، سواء أكانت سلطة فقيه أم سيدا أم زعيما.

&

من جهة أخرى، ثمة علاقة عكسية بين النزعة الفردية والتعصب، فكلما كانت مظاهر النزعة الفردية لدى الفرد أقوى، كانت مظاهر التعصب لديه أخف، والعكس صحيح تماما.

&

إن الثقافة العربية في عمومها، سواء منها قديمها أو حديثها، لا تدعم النزعة الفردية، بقدر ما تدعم الاندماج في ثقافة وقيم الجماعة، بما فيها من تذويب لشخصية الفرد، وجعله مجرد انعكاس للبنية الثقافية لتلك الجماعة.

&

هذا بالطبع لا يعني إهمال الجماعة، ورفض قيمها وبنيتها، بل القصد الاستقلال الفردي في كل ما هو ملك للفرد، وعلى رأس ذلك عقله ومن ثم أفكاره.

&

مما يترتب على غياب النزعة الفردية، بل إنه ثمرة مؤكدة من ثمارها، ما يتصل بالتعصب لـ"الرموز"، بغض النظر عن نوعية الرمزية التي يتحلى بها الرمز المتعصَّب له. وإذ يأخذ التعصب أشكالا متعددة، فإن على رأسها رفض مَسِّه بأي طائف من النقد. بل إن نقد "الرمز" يكافئ، بالنسبة للفرد المتعصب الفاقد لنزعته الفردية، نقدا للنص المؤسس ذاته.

&

يكفي أن تجوس خلال منتديات التواصل الاجتماعي لتكتشف الانغماس المذهل في تقديس الرجال، على الرغم من أننا لا نمل من ترديد عبارة "الرجال يعرفون بالحق"؛ وهو ترديد يؤكد المسافة الضوئية بين النظرية والتطبيق؛ فالنظرية في أقصى اليسار، والتطبيق في أقصى اليمين.

&

في هذا السياق المفعم بتقديس الرجال، فإن "الحق" ما يقوله الرمز، و"الباطل" ما يرفضه؛ أما عرض أقوال هذا الرمز على مشرحة النقد فدونه خرط القتاد. والأمر المحبط أن تقديس الرموز لا يقتصر على فئة معينة دون أخرى، بل إنه ليتجاوز العامة ليصل من يعدون أنفسهم "نخب" المجتمع.

&

تقديس الرمز قديم في ثقافتنا العربية، وهو ناتج في الأساس من عدم تربية العقول على حرية التفكير. هناك مقولات كثيرة في ثقافتنا تؤصل لهذا المسلك، مسلك أن يكون لك في كل مسألة، أو قول، أو أمر، وإن شئت فاختصر وقل: في أي تفكير، إمام. ولقد اختصر هذا المسلك ما أورده الخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع)، عن سفيان الثوري: "إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل".

&

لا يكتفي جمهور الرمز برد كلام من ينتقده، أو يصفه بالمخطئ؛ بل إنهم يتجاوزون ذلك إلى التقريع والشتم؛ بل يصل الأمر بفئام من هذا الجمهور الذي لا يقبل تخطئة شيخه، إلى حد قذف من ينتقده، أو يصحح خطأه؛ وإن جولة خاطفة في منتديات التواصل الاجتماعي، خاصة تويتر، لتبين ذلك بوضوح.

&

يعد الدكتور (واين دبليو داير)، في كتابه (مَواطن الضعف لديك)، التعصب للرموز مظهرا من مظاهر ضعف الشخصية، ناتجا من عدم تقدير الذات، ومن حاجتها إلى آخرين يحددون لها القيم التي يجب أن تسير بموجبها؛ ويقول: "في هذه الحالة، قد تجد نفسك وهي تبحث عن الآخرين كي يحددوا لك قيما ومعايير تعمل وفقا لها؛ وتقول لنفسك: طالما فلان وفلان يقومان بها، فلا بد أن أقوم بها أنا أيضا؛ إن تبجيل البطل يعتبر شكلا من أشكال إغفال الذات؛ إنه يجعل الآخرين أهم منك، ويجعل إشباعك متوقفا على شيء خارج ذاتك؛ وبينما لا يوجد أي شيء يعبر عن إحباط الذات، حينما تقدر الآخرين، وتقدر إنجازاتهم؛ إلا أن هذا التقدير يصبح موطنا من مواطن الضعف، حينما تجعل سلوكك يبنى على معاييرهم هم".

&

يترجم الذهبي في (سير أعلام النبلاء) للحسين بن علي الكرابيسي، فيصفه بـ"فقيه بغداد، صاحب التصانيف؛ وكان من بحور العلم، ذكيا فطنا فصيحا لسنا؛ تصانيفه في الفروع والأصول تدل على تبحره"؛ ويترجم له السبكي في (طبقات الشافعية) فيقول: "كان إماماً جليلاً جامعاً بين الفقه والحديث"؛ ومع كل هذا الجلال والقدر، إلا أنه لما خالف الإمام أحمد في مسألة اللفظ بالقرآن، لاقى عنتا من العامة، ممن يقدسون الرموز؛ فقال أحدهم في حقه، بعد أن شتمه،:"ما أحوجه إلى أن يضرب". ويذكر الذهبي أن أصحاب أحمد غضبوا لأحمد ونالوا من الكرابيسي. ولما توفي الإمام أحمد سار السبكي في جنازته، لكنه اضطر إلى الانسحاب من السير فيها بعد أن لعنه العوام الذين كانوا يسيرون مع الجنازة، بأصوات عالية، وبعد ذلك أكرهوه على أن يلزم بيته حتى مات.

&

وللإمام الطبري قصة مع المتعصبين لشيوخهم تستحق أن تروى للعبرة؛ فلقد ألف كتابا في اختلاف الفقهاء، ولم يذكر أحمد بن حنبل من ضمنهم، فسأله الحنابلة وقتها: لماذا لم يذكر الإمام أحمد بصفته فقيها؟ فكان رده: إن أحمد ليس من أهل الفقهاء، وإنما هو من أهل الحديث؛ عندها ثارت ثائرتهم، فأكرهوه على لزوم بيته حتى مات؛ وحتى بعد موته لم يسلم من تسلط المتعصبين، إذ رفضوا دفنه في مقابر المسلمين؛ فاضطر ذووه إلى دفنه في الليل خوفا منهم.

&

يقول ابن الأثير: إن الحنابلة اتهموا الطبري بالرفض والإلحاد؛ وكان علي بن عيسى يقول: والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه.

&

وليس الملام هنا الإمام أحمد رحمه الله، فلقد كان يختلف مع الكرابيسي، ومع الطبري، كما يختلف مع غيرهما، مثلما يسمح هو للآخرين بالاختلاف معه؛ لكن المشكلة تقع دائما من الجمهور، الذين لا يرضون حتى مجرد الاختلاف مع شيخهم، ولو في مسألة فرعية.