&السيد يسين

يمكن القول إنه مع قدوم القرن الحادي والعشرين الذي أصبحت العولمة سمة أساسية من سماته تغيرت السياسات التعليمية تغيرات جوهرية. ويرد ذلك إلى عدة أسباب مهمة لعل أهمها على الإطلاق تبلور سمات مجتمع المعلومات العالمي وأبرزها قيام الثورة الاتصالية الكبرى التي تتمثل في ظاهرة البث التليفزيوني الفضائي الذي جعل الجماهير في العالم تعيش الأحداث العالمية في الزمن الواقعي لحدوثها، بالإضافة إلى أخطر اختراع في تاريخ البشرية وهو اختراع شبكة الإنترنت التي أدت إلى ثورة بالغة العمق في مجال الاتصال الإنساني، بالإضافة إلى تأثيراتها العميقة على التعليم.

ولذلك اهتمت هيئة اليونسكو بموضوع السياسات التعليمية الجديدة التي ينبغي صياغتها للاستجابة لهذه التطورات التكنولوجية العميقة، ولذلك عهدت إلى «جاك ديلور» الوزير الفرنسي السابق بإعداد تقرير عن «التعليم في القرن الحادي والعشرين» قام على مبدأ أساسي هو «التعليم مدى الحياة»، ومعنى ذلك أن التعليم لا ينبغي أن يقف عند حدود الحصول على شهادة ما أياً كان التخصص، ولكنه ينبغي –نظراً للتطورات البالغة السرعة التي تحدث في مجال العلم والتكنولوجيا - أن يستمر مدى الحياة، بمعنى ضرورة أن تعكس الهياكل التعليمية والمقررات الدراسية أهمية التجدد المعرفي.

ومن ناحية أخرى يمكن القول إنه في المجتمعات المتقدمة حيث تبلورت ملامح ما يطلق عليه «مجتمع المعلومات العالمي» بدأ الاستعداد للانتقال إلى ما يطلق عليه «مجتمع المعرفة» Knowkdge Society وهو المفهوم الذي صاغه فيلسوف الإدارة الأميركي الشهير «بيتر دراكر» الذي قرر أن هذا المجتمع الجديد لابد أن يسبقه نشوء ما أطلق عليه «اقتصاد المعرفة».

وقد أشرفت على هذا المجلد المهم زميلتي في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الأستاذة الدكتورة «ليلى عبد الجواد» التي شاركتني في بحوث «السياسة الثقافية» التي أشرفت عليها، وحررتْ بحث «تخصيص الوقت» الذي كان أحد الأبحاث الرئيسية فيه.

وقد صدَّرت الدكتورة «ليلى عبد الجواد» المجلد بمقدمة ضافية ذكرت فيها «يمثل النظام التعليمي في أي مجتمع حجر الزاوية في كل النظم الاجتماعية الأخرى فهو يحدد بشكل كبير النظام الاقتصادي والسياسي ومن ثم النظام الاجتماعي لكل مجتمع، وحدوث الخلل في هذا النظام من شأنه أن ينعكس سلباً على الجوانب الاجتماعية كافة» وقد صدقت تماماً في هذا الحكم لأن تأمل الأوضاع التعليمية في مصر وفق المؤشرات الكمية تبرز أن معدل الأمية هو 26% من عدد السكان، وأنه وفق المؤشرات الكيفية فإن هناك تدهوراً شديداً في جودة التعليم.

وقد شاركت نخبة ممتازة من الباحثين والباحثات في تحرير مجلد التعليم هم الدكاترة «أماني فوزي» و«كامل الشناوي» و«جيهان كمال» و«محب الرافعي» و«رانيا عامر» و«منيرة إسماعيل» و«ريهام محيي الدين» و«هند فؤاد» و«عبد الله سليمان» و«وفاء نعيم».

والحقيقة أن هذا المجلد القيم يقدم خريطة متكاملة للنظام التعليمي في مصر بمختلف أنواعه. وهو مقسم إلى خمسة عشر فصلاً يشمل التعليم في مرحلة رياض الأطفال، وفي المرحلة الابتدائية، والإعدادية والثانوية والتعليم الفني والمعاهد الأزهرية، والتعليم الخاص والتعليم الدولي والأجنبي، وتعليم ذوي الاحتياجات الخاصة، وواقع إعداد المعلم وتدريبه، والتسرب من التعليم وواقع الأمية في مصر، والمشاركة المجتمعية في مجال التعليم وأنماط التعليم المستحدثة والتعليم الإلكتروني نموذجاً، وأخيراً الجودة في التعليم. ويلفت النظر بشدة هذا الفصل الأخير الذي درس بشكل تفصيلي مفيد للغاية نظام الجودة في التعليم، والذي كتبته الدكتورة «منى المتولي».

والواقع أن هذا النظام المستحدث أثار جدلاً شديداً في الأوساط التعليمية والأكاديمية والفكرية.

ولذلك اهتممت اهتماماً خاصاً بخاتمة مجلد التعليم التي حررتها الدكتورة «ليلى عبد الجواد»، ووجدتها تركز على موضوعات بالغة الأهمية تكشف عن عمق متابعتها لتطور السياسات التعليمية العالمية.

فهي تقرر –على سبيل المثال- في الفقرة الثالثة من الخاتمة «إكساب المتعلم الكفاءات الأساسية لمجتمع المعرفة القائمة على القدرة على التعلم المستمر، واكتساب قيم المواطنة الرقمية، والتأكيد في منظومة المناهج على تنمية المعرفة وإنتاجها كعنصر إنتاجي حاكم لأنها هي المستقبل». وفي هذه الفقرة الموجزة دراية كافية بفلسفة التعليم في القرن الحادي والعشرين التي ألمحنا إليها في صدر المقال حين تحدثنا عن مبدأ التعليم مدى الحياة، ومن ناحية أخرى تركيزها الموفق على عملية إنتاج المعرفة لا مجرد استهلاكها فقط من مصادرها الأجنبية.