أحمد جابر

تشبه سورية المنكوبة غيرنيكا الإسبانية. القتلة المؤتلفون يكررون وجوههم ولو اختلفت أسماؤهم. في إسبانيا الثلاثينات، ديكتاتورية ثورية إسبانية مجرمة، تدعمها فاشية إيطالية ونازية ألمانية لدحر الحركة الشعبية ومطالبها الديموقراطية، وفي سورية القرن الحادي والعشرين، ديكتاتورية سورية قاتلة، يدعمها الاستبداد الروسي والرجعية الإيرانية والميليشيات المذهبية من أصقاع الأرض، ضد مطالب الشعب السوري الذي خرج مطالباً بكرامته وبحريته، وبحقه في استرداد السياسة من مغتصبيها.

يحظى العنف التدميري القاتل في سورية بمواكبة «ديموقراطية رأسمالية» من دول الحضارة ومراكزها الكبرى، ويدير اللعبة، التي قوامها التنديد الكلامي، الراعي الأميركي، أي ذاك الذي ينسب إلى ذاته مسؤولية الدفاع عن الديموقراطية والمدنية وكل لوازم «الحضارة»، وما يرافق الكلمتين اللتين باتتا خاويتين من كل سياسة ملموسة تنتسب إلى ما حملتاه من قيم ومن مضامين. ليس في الأمر مفاجأة، فالاستبداد العالمي واحد، ولكل آلياته التي تختلف في خشونتها أو نعومتها، ولكل إرهابه الخاص الذي ينبثق من مصالحه الدولتية، أو يطلع من منظومة بناه وعلاقاته العشائرية والعائلية، هكذا يصعب التمييز بين إرهاب مفروض بقوة القصف الجوي، وبين إرهاب مفروض بقوة السكين، ولا يكون التمييز إلا من خلال وصف الأداة، ومن خلال المشهدية الصافعة التي يعتمدها القاتل الإرهابي «البدائي»، والمشهدية السينمائية الخاطفة التي يتوسلها القاتل الإرهابي «الحضاري»، ذو القفازات الناعمة وصاحب الياقة البيضاء.

إذن في سورية اعتداء أممي على شعبها وعلى تاريخها وعلى عمرانها، وفي سورية هجوم على اللغة والمصطلح والوسائل وأشكال الردود. للتذكير، ارتبطت كلمة الأممية بالنظرية الاشتراكية عموماً، فكانت نجدة من جانب شعوب لشعب آخر، في مواجهة العدوان السلطوي المدعوم خارجياً، ودعماً لمطالب سياسية يعلو فيها صوت التضامن الأممي بين «عمال ومضطهدين» عليهم أن يتحدوا، في مواجهة العدوان الرأسمالي ضد مصالح الشعوب المنهوبة في السياسة وفي الاقتصاد وفي مقومات العيش الإنساني الكريم. كان الموقع الدفاعي دائماً من نصيب الشعب، وكان الموقف الهجومي دائماً صفة لممارسات السلطة ونظامها. كان المستقبل والتطلع، إلى الحرية موقفاً لكل شعب مقهور، وكان التحجر والرفض والقمع، منوعات من الأساليب الزجرية التي يلجأ إليها كل حاكم تسلطي، وكل تشكيلة سياسية تقيم في الماضي، وتصد بما أوتيت من عنف، كل أبواب المستقبل.

ما حصل في سورية، وما يتوالى حتى تاريخه، هو ممارسة العنف النظامي ضد شعب خرج في البداية أعزل إلا من هتافاته، وما تمارسه الأطراف الخارجية في سورية، هو الاعتداء السافر على خيارات الشعب السوري الأولى، أما الذرائع التي تقـــول إن الحـــرب الأهلية في سورية باتت حرباً ضد الإرهاب، فلا تعدو كونها حججاً واهية كان السبب الأول في وجودها وفي إطلاقها، دعم الاستبداد الخارجي للاستبداد الداخلي، ما أطال بقاءه، وما كان للشعب السوري الذي خرج منادياً «سلمية سلمية»، إلاّ أن يدافع عن نفسه، عندما قُتلت سلميته بقذائف روسية، وبذخائر قوات مختلطة، إيرانية الهوى وإيرانية الجنسية، وعندما منعت كل أشكال الضغط على القاتل السوري الرسمي، وحُجبت كل أشكال الدعم عن القبضات والصدور الشعبية العارية.

لقد تــــطورت الأمـــور الميـــدانية والسياسية في سورية، إلى المستوى الذي ينبغي معه إعادة النظر في تدوير الزوايا، لذلك يجب أن يقال للروسي إنه شريك أساسي في لعبة الدم السورية، ويجب أن يقال للإيراني إنه صاحب برنامج تخريبي في الديار العربية، من سورية القتيلة إلى سائر المدن العربية المستهدفة ببرامجه التوسعية، ويجب أن يقال للطرف الأميركي إنه شريك في ضبط إيقاع المجزرة السورية والخراب العربي، إنما بطريقة لا تناغم فيها، ولا يصدر عن الجوقة الإيقاعية التي يشارك في إدارتها، إلاَّ النشاز، هذا الأخير الذي هو من نصيب الأسماع العربية فقط، إذ يجب ألاّ نعتقد بأن الطرف الأميركي وحلفاءه الإقليميين معنيون بإنتاج «ألحان سياسية» منسجمة، إلاّ عندما يتعلق الأمر بأدائهم «الغنائي» الخاص، الخاص فقط.

في مواجهة أممية القتل، لجأ الشعب السوري إلى ما لديه من مخزون دفاعي موروث، فأنتج هذه الأشكال من الردود التي نستطيع الحديث عن تخلفها وعن ماضويتها، لكن لا أحد يملك أن يقترح على الشعب السوري أو العراقي نسخة دفاعية أخرى، ولنتذكر أن العنف العالي ينتج عنفاً من صنفه، ولنتذكر أيضاً، أن التاريخ لا يعرف فراغاً سياسياً، لذلك تتقدم القوى الجاهزة دائماً لاحتلال هذا الفراغ. في التاريخ الحالي فراغ ديموقراطي يملأه الاستبداد الأممي، وفراغ تنويري تملأه قوى الظلام، الدينية والسياسية، وفراغ نهضوي مستقبلي، تملأه قوى الماضي التي لا حاضر سواها، لكن مما يجب الانتباه إليه دائماً، أن المواجهة تدور بين شعب تعرض للاعتداء عليه، وبين قوى خارجية تمعن في قتل هذا الشعب تنفيذاً لمخططاتها. سيبقى البون شاسعاً بين المدافع، بغض النظر عن بشاعة أساليبه، وبين المهاجم الذي يعتمد نفس الأساليب البربرية التي يدين استعمالها من جانب من يعترضون على عدوانه. مهاجم خارجي ومدافع محلي. لا يستويان.


* كاتب لبناني