عبدالله بن بخيت

منذ اللحظة التي بلغني فيها أن صالح الأشقر نقل إلى المستشفى في أحشائه مرض خطير هجس قلبي أن آخر ملفات الحداثة الشبابية تقرر أن يغلق. منذ أكثر من عقدين والتاريخ يهدد بمسح آثار التجربة المضيئة التي نبتت في الثمانينيات.. صالح ليس استثناء من بين الحداثيين الشباب حينذاك والذين غمرهم الظلام اليوم، ولكنه كان مالك المقر الذي أنتجت فيه فوضى الحداثة.. ظن بعض الناس أن حركة الثمانينيات هي مجموعة من القصائد الحديثة والتلويح برموزها الكبار كأدونيس ويوسف الخال وعبدالصبور ورموزها المحليين كعبدالله نور ومحمد العلي، وأن مقرها الحقيقي هو صفحات الأدب في الجرائد السعودية.. هذا غير دقيق.. جزء بسيط من الحداثة كان يطل من على صفحات الجرائد التي أسهم بفتحها حداثيون في ملابس رزينة كعبدالله مناع وتركي السديري وهاشم عبده هاشم.. الخ.

كان السلوك الحداثي الحقيقي يترعرع في البيوت ويطل بكلمات غامضة مغلفة بكثير أو قليل من الجمال على القراء. سلوك اجتماعي وثقافي مركب من إيمانات متناقضة. فكرة قدت من خليط من الأفكار العربية المتمردة والمستوردة من متمردين في الغرب. اشتراكية عروبية حداثة وبعضها يعود إلى ثورة الفلسفات في الستينيات في أوروبا.. اتسعت الحداثة لكل شيء عدا الأفكار المحلية التقليدية لأنها كانت تمردا عليها.. ترعرع كل من استطابها من سكان الرياض في بيت صالح الأشقر.. اجتمعت وتشكلت في بيته وانتهت في بيته.. كان صالح زعيما سلوكيا ورئيسا بوصفه نموذجا.. مثل بشخصيته وبسلوكه وباندفاعه وبتناقضاته نموذجا للحداثي الأصيل، آمن الحداثيون بالحداثة البرجوازية التي مثلها في الغرب تي اس اليوت وفي نفس الوقت آمنوا بالاشتراكية وبعضهم بالغ وآمن بالشيوعية.. هذا التناقض هو صميم المثقف الحداثي. كانت فكرة تمرد أكثر منها فكرة جاءت لتستقر. الفرار من الركود أو تحريك الراكد كما كان يقال. من يريد أن يعرف حركة الحداثة في الثمانينيات عليه أن يفكك شخصية صالح الأشقر الفكرية إلى مستويتها المتعددة.. التمرد والرفض وتبني الأفكار المقاتلة على مستوى الكتابة والسلوك.

كان يجد نفسه دائما في المقدمة ليس لأنه قيادي ولكن لأنه على استعداد أن يذهب إلى أقصى درجة فكرية تسمح بالذهاب إليها الظروف المتاحة.. اختلطت الحداثة بحياته الشخصية حتى أصبحت سلوكه ومستقبله.. تعلق مصيره بمصيرها.. انطفأت فانطفأ معها.. كما توقعت لن يرى من الأضواء سوى تلك الأضواء التي سيتفضل بها عليه ضجيج موته.