نجلاء حبريري

مع الأيام الأولى لعام 2017، كان افتتاح منتدى دافوس الاقتصادي في دورته رقم 47 أمس، منصة مناسبة لإعلان الحقيقة التي يعرفها العالم منذ فترة طويلة دون أن يجرؤ أحد على الإفصاح عنها بشكل مباشر وموسع؛ وملخصها أن «خريطة العالم الاقتصادية تغيرت». 

ومع تبديل المقاعد على الطاولة الدولية من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، شاهد العالم الصين تؤكد من خلال أرفع مسؤوليها، الرئيس الصيني تشي جينبينغ، عن دفاع مستميت عن العولمة وفوائدها وأهمية المضي قدما لنموها وتطويرها؛ بعد أن كانت بكين أشرس المقاومين على مدار السنوات الماضية للعولمة... في وقت لا تزال فيه أفكار إدارة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب تمثل لغزا مطلسما، حيث عبر عضو فريقه الانتقالي ومندوبه المباشر في «دافوس» أنتوني سكاراموتشي، عن مفاهيم عامة، سعى خلالها إلى توضيح أسباب دعوات إدارته الحمائية، قائلا إنها محاولات لـ«إعادة العدالة».
وفي الوقت الذي سجلت فيه القوتين الاقتصاديتين الكبريين على مستوى العالم موقفيهما من عالم الغد بكل وضوح، بدت القوى التقليدية الأخرى، وعلى رأسها أوروبا، في موقف المتابع الذي ينتظر مزيدا من دراسة الموقف وحساب المكاسب والخسائر حتى يحدد معسكره من المعركة الاقتصادية المقبلة؛ رغم أن جميع الأطراف تتنصل من أنها تسعى إليها وتحذر منها.
وفي كلمته الافتتاحية للمنتدى، الذي يحضره نحو 3 آلاف من قادة العالم الاقتصاديين والسياسيين المجتمعين منذ مساء الاثنين حتى ختامه الجمعة المقبل، حذر الرئيس الصيني الدول من العودة إلى «سياسات الحماية التجارية»، في هجوم غير مباشر - لكنه واضح لكل الأطراف - على الأفكار المعلنة للرئيس الأميركي الجديد. وشبه الحماية التجارية بأن «يحبس المرء نفسه في غرفة مظلمة لكي يحمي نفسه من الخطر؛ ولكنه يحرم نفسه داخل الغرفة في الوقت ذاته من النور والهواء».
ويعد جينبينغ أول رئيس صيني يزور المنتدى الاقتصادي الأبرز عالميا، وقال إن «كثيرين باتوا يرون العولمة مصدرا للمتاعب، لكن المشكلات العالمية لم تتسبب بها العولمة»، مؤكدا أن «السعي المفرط وراء الأرباح؛ وليس العولمة، هو ما تسبب في الأزمة المالية العالمية». كما حث دول العالم على ألا تحمي مصالحها الخاصة على حساب مصالح الآخرين، مشددا على أنه «يجب أن نبقى متمسكين بتطوير التبادل الحر والاستثمارات خارج الحدود الوطنية، وأن نقول (لا للحمائية)».
وأكد جينبينغ أمام الحاضرين: «لن يخرج أحد فائزا من حرب تجارية»، وهي جملة رآها بعض المراقبين بمثابة «الدفاع عن مستقبل الاقتصاد»، فيما فسرها آخرون بأنها يمكن أن تكون تلويحا بورقة تهديد مفادها أن بكين لن تقف مكتوفة الأيدي في حال اضطرارها للدفاع عن مصالحها.
لكن الرئيس الصيني أكد أن «الصين ستبقي بابها مفتوحا ولن تغلقه»، وأوضح أن بلاده تؤيد إبرام اتفاقات تجارية منفتحة وشفافة ومفيدة لجميع الأطراف، داعيا الدول الأخرى لعدم إلقاء اللوم على «الآخرين» حين تواجه «صعوبات». كما أكد أن بلاده لن تخفض سعر صرف عملتها اليوان، أو تبدأ حربا تجارية.
كما دعا الرئيس الصيني أيضا إلى «إعادة توازن» في العولمة، من أجل جعلها «أقوى وأكثر شمولية واستدامة». وقال: «لا يفيد أحدا إلقاء المسؤولية على العولمة في كل مشكلات العالم». وفي الشق المتعلق بالمناخ، عدّ أن اتفاق باريس حول المناخ «يشكل انتصارا تحقق بصعوبة»، داعيا كل الموقعين «إلى الالتزام به».

هجوم ألماني متزامن

بالتزامن، ورغم أنه كان بعيدا عن «دافوس»، فإن زيغمار غابرييل، نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ووزير الاقتصاد، حذر بدوره دولا مثل الولايات المتحدة من «الانغلاق في التجارة العالمية»، قائلا خلال مؤتمر صحافي من برلين أمس إن «توجه الانعزال، واتباع شعارات على شاكلة: (علوا الجدران)، و(أغلقوا الحدود)، و(شددوا الحمائية)، زاد بشدة»، موضحا أن هذا «لم يرصد فقط» منذ فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية.
وذكر غابرييل أن الشعبويين يعادون حرية التجارة، وقال: «إنهم مثل المضاربين الذين يسعون إلى إثارة السخط دون الاكتراث بالعواقب»، موضحا أن القومية والحمائية ليستا الطريق المؤدي إلى التطور.

دفاع عن رؤى ترامب

وبالعودة إلى «دافوس»، وبعد نحو ساعتين على كلمة جينبينغ، اعتلى أنتوني سكاراموتشي، وهو عضو في الفريق الانتقالي للرئيس الأميركي ترامب، المنبر بدوره ليلقي كلمة، كان الجميع ينتظرها بترقب كبير، من أجل معرفة هل كانت أفكار ترامب أثناء حملته دعائية بأكثر منها فعلية، وكذلك هل يتجه ساكن البيت الأبيض الجديد إلى تغيير جانب من رؤيته وسياساته المعلنة مع قرب توليه المنصب الرسمي.
وفي حديثه مع فيليب روسلر، نائب المستشارة الألمانية السابق، أشار سكاراموتشي إلى أنه كان زائرا دائما في «دافوس» خلال السنوات العشر الماضية، لكنه يحضر هذه المرة ممثلا عن ترامب، حيث إنه سيكون مساعده رسميا بدءا من الجمعة المقبل.
وفي بداية الحوار، أشار روسلر إلى حديث الرئيس الصيني «التاريخي»، والمدهش في فحواه التي كان الجميع ينتظر أن تأتي من الجانب الأميركي وليس الصيني، سائلا سكاراموتشي عن الخطوات الأميركية المقبلة بصدد التجارة الحرة.
وقال سكاراموتشي إنه لم يحظ بفرصة متابعة كلمة جينبينغ، لكنه أشار إلى أن لدى الصين وأميركا مصالح مشتركة وعلاقات قوية. كما أوضح أن ما تريده الإدارة الجديدة هو «تجارة حرة وعادلة».
وعبر استعراضه المسار التاريخي للعلاقات التجارية الأميركية، أوضح سكاراموتشي أن أميركا سمحت بـ«تدفق حر» للبضائع والسلع الآتية إليها، فيما سمحت في الوقت ذاته أيضا للآخرين بمنع دخول سلعها إلى أسواقهم، في محاولة منها لمعاونة الدول الأخرى على تحسين أوضاعها الاقتصادية.
وأوضح أن تلك السياسات الأميركية خلال أكثر من 70 عاما نجحت في تحقيق أهدافها، ومنعت حدوث تضارب مصالح عالمي، وعليه؛ فقد كان دور الولايات المتحدة كبيرا في وضع أسس الاتفاقات التجارية والمفاهيم العالمية للتجارة الحرة. لكن الإدارة الجديدة ترى أنها في واقع الأمر «حرة من غير توازن أو عدالة»، نتيجة النقاط السابقة. قائلا إن «كل ما يريده الرئيس الجديد وإدارته هو إعادة التوازن لطرفي هذه العلاقات، حيث إن هذه السياسة أضرت باقتصاد أميركا».
وأفاد سكاراموتشي أن الاتفاقات التجارية الأميركية مع عدة دولة أدت لشطب وظائف في قطاع الصناعة بأميركا وتآكل الطبقة المتوسطة، مشيرا إلى أن الإدارة الأميركية الجديدة تريد أن تحقق مزيدا من الأرباح من خلال علاقاتها التجارية مع الدولة الآسيوية العملاقة، وقال إن «الولايات المتحدة - والإدارة الجديدة - لا تريد خوض حرب تجارية»، مضيفا أن الولايات المتحدة ترغب في «علاقة ثنائية متميزة مع بكين... نسعى لعلاقات تجارية حرة وعادلة؛ لا متفاوتة».

أميركا والشرق الأوسط... وقضايا العالم

وعن سياسة ترامب في منطقة الشرق الأوسط، قال سكاراموتشي لـ«الشرق الأوسط» على هامش جلسته، إن الرئيس المنتخب يدرك العلاقة الثنائية طويلة الأمد بين السعودية والولايات المتحدة، لافتا إلى أن المملكة تزخر بقيادات شابة طموحة. كما قال إن ترامب يعد «الرياض جانبا أساسيا في أي اتفاق سلام بين إسرائيل وفلسطين، إلى جانب الأردن».
من جهة أخرى، قال سكاراموتشي خلال الجلسة إنه عندما قال الرئيس المنتخب إن الناتو «غير نافع»، كان يقصد أنه في حاجة إلى إصلاحات جذرية، داعيا الصحافيين والمتابعين الأميركيين والأوروبيين إلى الأخذ بعين الاعتبار «رمزية» تصريحات الرئيس المنتخب.
وعن تفسيره الإصلاحات، قال إن الحلف الأطلسي أسس لمواجهة «المد الشيوعي»، وشهد اتحاد دول سيادية لمواجهة الاتحاد السوفياتي. وتابع أن «عالم اليوم مختلف تماما عما كان عليه... و(الناتو) لا يزال عالقا في تحديات الماضي، رغم تفكك الاتحاد السوفياتي وانضمام روسيا لمجموعة ((G20»، مشددا على أن الأولوية اليوم هي «محاربة التطرف».
أما عن «البريكست»، فقال سكاراموتشي إن انفصال النخبة الأوروبية عن عامة الناس أدى إلى تهميش الطبقات العاملة، وإلى فقدانها الثقة في قادتها، «وهو ما سيعمل الرئيس المنتخب على تغييره بالنسبة للأميركيين»، إلا أنه تابع مشددا أن «الرئيس المنتخب يكنّ احتراما بالغا للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، كما يكن الاحترام نفسه للرئيس الروسي فلاديمير بوتين».
وفي منتصف حديثه عن الرئيس المنتخب، لفت سكاراموتشي إلى أنه لاحظ جانبا سلبيا واحدا في شخصية الرئيس، وقال: «إنه لا ينام، ويصعب التفوق عليه في العمل».
أما عن سبل تواصل ترامب مع العالم الخارجي، فعدّ سكاراموتشي أنها تعكس «عبقرية في استخدام وسائل التواصل الحديثة، وتمكنه من الوصول إلى الناس بشكل شخصي».
وأنهى سكاراموتشي مداخلته بعلاقته بالرئيس المنتخب، وقال إنه كان مستشارا لدى مرشحين جمهوريين قبل ترامب، إلا أنه بعد أن علم بنية الأخير لترشيح نفسه، وعده بالانضمام إلى فريقه الانتخابي إذا فاز في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري.

أوضاع عالمية مرتبكة

ويجمع المنتدى الاقتصادي العالمي في بلدة دافوس السويسرية منذ نحو 50 عاما مسؤولي شركات ورؤساء حكومات وسياسيين وفنانين؛ أي باختصار نخبة مناصرة عموما للتبادل الحر بجميع أشكاله.
ويناقش المشاركون في «دافوس» توجهات العالم في قصر المؤتمرات الكبير، ويناقشون الأعمال في اجتماعات بعيدا عن الأضواء، سواء في قاعة اجتماع أو في أحد الفنادق الكبرى، أو إحدى الحفلات الساهرة التي تواكب المنتدى.
وينعقد المنتدى هذه السنة في ظل العداء المتزايد من جانب شريحة كبيرة من الشعوب الغربية حيال العولمة، لا سيما بين طبقات وسطى تعاني من تراجع أوضاعها، وقد صوتت لصالح ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتهدد ببلبلة اللعبة السياسية في فرنسا وألمانيا ودول أخرى.
ومؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب مدرك لهذه القطيعة بين النخب والطبقات الوسطى، وهو نظم اللقاء هذه السنة تحت شعار: «مسؤولية القيادة»، داعيا إلى البحث عن «الأسباب خلف غضب الناس وعدم ارتياحهم». ونشر المنتدى الاقتصادي العالمي، الذي يعد الإقصاء الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي الخطرين الرئيسيين اللذين يواجههما العالم عام 2017، دراسة الاثنين الماضي تكشف أن متوسط الدخل السنوي تراجع في الدول المتقدمة على مدى 5 سنوات.
وعلق مدير البنك السويسري العملاق «يو بي إس»، سيرجيو إرموتي، متحدثا لوكالة الصحافة الفرنسية: «علينا أن نستمع إلى ما يقوله الناس. فوائد العولمة تظهر بوضوح أكبر في الدول الناشئة أكثر منها في الدول المتطورة».
وقال رئيس قسم الاقتصاد في شركة «آي إتش إس ماركت» ناريمان بهرافيش لوكالة الصحافة الفرنسية إن «المفارقة» تكمن في أن التوقعات على صعيد الاقتصاد الكلي تبقى رغم ذلك «إيجابية»، غير أن «التكنولوجيا والعولمة تتركان عددا كبيرا من الناس على الهامش».
وأعلنت منظمة «أتاك» المعادية لليبرالية منددة: «كما في كل سنة، وبتواطؤ وسائل الإعلام الكبرى، ستسعى هذه النخب لإعطاء صورة إيجابية لقيادتها على صعيد العولمة. وهي مضطرة إلى الأخذ بتمرد الشعوب المتزايد الذي يبلبل النظام النيو - ليبرالي».
وإذ نددت منظمة «أوكسفام» غير الحكومية بهذه التوجهات، نشرت دراستها السنوية عن الفوارق، التي تصدرها مع انطلاق أعمال منتدى دافوس، لافتة فيها إلى أن أكبر 8 أثرياء في العالم يملكون معا ثروة توازي ما يملكه نصف سكان العالم الأكثر فقرا.
وأظهرت دراسة لـ«مكتب إيدلمان» للعلاقات العامة أن الثقة في الحكومات والشركات ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية تراجعت بشكل كبير في الدول الـ28 المشمولة في الدراسة، وأوضح رئيس «المكتب» ريتشارد إيدلمان أنه «انهيار في الثقة».
وذكر الاتحاد النقابي الدولي «يوني غلوبال يونيون» الذي يشارك رئيسه فيليب جينينغز كل سنة في منتدى دافوس أنه «بعد 30 عاما من الأرباح القياسية، كانت أمام مجتمعات الأعمال فرصة لتوفير الازدهار للجميع، لكنها فشلت؛ وهي الآن تدفع الثمن السياسي».