رائد جبر 

تتجه أنظار العالم اليوم إلى آستانة، المدينة «العاصمة» التي لم يكن اسمها معروفاً للكثيرين، قبل أن تدخل على خط جهود تسوية الصراع في سورية بفكرة روسية– تركية بدت للوهلة الأولى غريبة جداً.

ومنذ أن أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عشية رأس السنة أن العاصمة الكازاخية يمكن أن تكون «منصة حوار» بين الأطراف السورية، كان السؤال الأول الذي حير المتابعين: لماذا آستانة؟

لأنها حليفة لموسكو وأنقرة في آن؟ لأنها «محايدة»؟ أم لأنها بعيدة جداً من أوروبا؟ وربما كما يقول بعضهم لكل تلك الاسباب مجتمعة، فالاختيار أراح الكرملين وشريكه التركي من مشقة إقناع أطراف سورية قد تتحفظ على المشاركة في حوارات تجرى في روسيا.

و «حياد» كازاخستان يبدو مناسباً لكل الأطراف، فالجمهورية السوفياتية السابقة، التي سبق أن استضافت بإغراء من موسكو أيضاً، لقاء سورياً محدوداً، لم يُحسب عليها تبني موقف مزعج لأي طرف، على رغم أنها لا تفوِّت مناسبة إلا وتعلن تأييدها سياسات الكرملين. والأهم من ذلك كله، أن الكرملين تعمد تجنب عقد اللقاء في عاصمة أوروبية، وأخذه إلى وسط صحراء تقع إلى جنوب سهول سيبيريا.

وللتاريخ مقالب وحكم، فالعاصمة التي تستضيف اليوم نقاشات لإنقاذ أقدم عواصم الحضارة الإنسانية، لا يزيد عمرها على عقد ونيف، ولم يسبق أن استضافت «حدثاً عالمياً».

وقبل أن تتحول العاصمة الكازاخية في 1998 إلى «آستانة» بمد الألف هكذا، كما تلفظ باللغتين الكازاخية والروسية، وتعني «العاصمة» بحسب الترجمة الحرفية للاسم، كانت البلدة الصغيرة ذات الغالبية السكانية الروسية، مدينة شبه منسية، لولا أن التاريخ يذكرها كقاعدة عسكرية روسية تأسست في الثلث الأول من القرن التاسع عشر، ومنحها بعض القبور التي ارتفعت على هضبة قربها، اسمَها الأول «أكمولا»، ويعني بالكازاخية «الضريح الأبيض».

وفي العهد السوفياتي، وبينما كانت العاصمة السابقة ألمآتة تعد درة آسيا الوسطى، تحولت أكمولا في العام 1961 الى «تسيلنوغراد»، أي «مدينة الأراضي البكر» بقرار من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، الذي وضع خطة عملاقة لاستصلاح الأراضي وتطوير القدرات الزراعية لسد العجز في القمح، قاد تنفيذها منذ 1954 الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، الذي كان في ذلك الوقت سكرتيراً ثانياً للحزب، ووثق للمشروع في وقت لاحق في مذكراته بكتاب حمل عنوان «الأراضي البكر».

وقد يكون للمدينة الهادئة الصغيرة فضل على بريجنيف، فنجاح المشروع ساهم في إعادته بعد سنوات إلى موسكو زعيماً للحزب والدولة.

وبين «الضريح الأبيض» و «آستانة» مرت عهود وتقلبت أحوال البلاد والعباد، وغدت المدينة «القاعدة العسكرية» السابقة عاصمة لواحدة من أنجح جمهوريات الاتحاد المنحل اقتصادياً، وأكثرها تسامحاً، وأقلها تعرضاً لتأثير الصراعات القومية أو الدينية.

وبينما تستضيف آستانة الحوار السوري– السوري، يسعى الرئيس نور سلطان نزارباييف إلى تكريس مكانة لها بين العواصم التي تلعب أدواراً في تسوية مشكلات عالمية، فالعاصمة الفتية تطمح إلى أن تكون أكثر من مجرد منصة اقترحتها موسكو وأنقرة في لحظة اضطراب دولي.