سمير عطا الله

 غاب محمود درويش صيف 2008 في هيوستن، تكساس. كان رمزاً جميلاً لشعر الشتات، ومات على بعد محيطين وقارتين من جبل الكرمل، حيث أفاق فإذا ترابه ليس وطنه. خرج الشاعر الناحل من فلسطين إلى بيروت. وفي ذلك الزمن، كانت بيروت شيئاً سحرياً أشبه «بالوطن البديل».

أحبت بيروت محمود، وأغواها نحوله ويأسه، والشعر الذي ينشده على مقام الحنين. وفيما فرض رجال المقاومة على المدينة وجوهاً عابسة وتصريحات متغطرسة، ألقى عليها محمود درويش باقات الياسمين. ولم يطلب منها أن تموت من أجله، بل أن تزداد حياة لكي يزداد حباً.
كان محمود، الباسم، الناحل، الحَييّ، يتمشى في شوارع بيروت، كأنه وُلد فيها. بعض الشعراء الآخرين استغلوا سلطة الثورة الفلسطينية، فانضموا إلى الحواجز. وبقي محمود في الشعر والحب. حب بيروت وجدرانها. وشعر أنه سيفقد فلسطين مرة أخرى، وهذا الجانب من جبل الكرمل، عندما بدأت النار تشتعل في ثوب المدينة.
عندما فقد بيروت، فقد فلسطين مرة أخرى، وليس نور «الوطن البديل». بعد بيروت، باريس وعمان ورام الله، صار تائهاً لا مقيماً، يردد موّاله الأخير للمدينة المحاصرة «شكراً لبيروت الضباب - شكراً لبيروت الخراب». أدرك أنها لن تتكرر في هذه الأوطان، مثلما أدرك رئيس جمعية فرسانها، نزار قباني، الذي أعطى البوح مداه الشعري: يا ست الدنيا يا بيروت. كلاهما مات بالقلب، بعيداً عنها. واحد في هيوستن، آخر الدنيا، وواحد في وسطها البديع، لندن.
بينما كتب نزار أول الحرب اللبنانية: «سوف تقتلونه وتندمون»، كتب محمود في نوع من الاعتذار عن الانهيار التام الذي حدث: «لم نفهم لبنان، لم نفهم لبنان أبداً، ولن نفهم لبنان، لن نفهم لبنان إلى الأبد».
بعد بيروت، كنت ألتقي محمود في باريس، المدينة الثانية التي عرفت كيف تحبه حتى من دون أن تتعرف إلى لغته الجميلة. أحبته كما هو، مرهفاً وبسيطاً وشاعراً، وحاملاً في طيات وجهه أحزان القضية:
«... من هو الشخص الغريب وكيف عاش، وكيف مات فإن أسباب/ الوفاة كثيرة من بينها وجع الحياة».