فـــؤاد مطـــر

مرة أُخرى ترعى القاهرة، دعماً ومكاناً، اتفاقاً يستهدف شد أواصر الصف الفلسطيني على أمل إبقاء رموز القضية على خير وفاق مع بني قومهم العرب الذين يريدون الخير لهم، بعدما بدأت تُطوى بالتدرج صفحة تعامُل البعض من متعهدي تسويق القضية كورقة لتطلعاتهم، على نحو ما يقوم به النظام الثوري في إيران وسائر المحلقين في فضائه، والذي يعيش حالة من الخيارات الصعبة في ضوء الخطوة التي اتخذها الرئيس دونالد ترمب يوم الجمعة 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2017، ملوِّحاً باحتمال إلغاء الاتفاق النووي مع إيران في حال لم يتم تعديل الاتفاق، مفوِّضاً وزارة الخزانة باتخاذ أشد العقوبات ضد الحرس الثوري، كما أنه سمَّى المرشد علي خامنئي بالاسم من خلال عبارة «إن الحرس الثوري هو القوة العسكرية الفاسدة الإرهابية الخاصة بالمرشد الأعلى للنظام في إيران، وهو يضع يده بالقوة على مقدرات الدولة الإيرانية ويجمع تبرعات دينية ويضع كل هذه الأموال في خدمة تمويل الإرهاب والحروب في الخارج....».


كانت المَضافة القاهرية الأُولى للرموز الفاعلة في الموضوع الفلسطيني قد تمت في الزمن الناصري يوم كانت للرئيس عبد الناصر «موْنة» على الرئيس شارل حلو، الذي كانت ولايته الرئاسية قد شارفت على الانتهاء، استمراراً لحالة متميزة من العلاقة الناصرية - الشهابية تجاه «لبنان القوي في ضعفه» على نحو رؤية الشيخ بيار الجميل، والد الرئيسيْن بشير الذي أقسم اليمين الدستورية ولم يتسلم، حيث اغتالوه لأنه يريد وطناً على نحو ما صاغ هويته ميثاق 1943، وأمين الذي كان أول مَن يترأس الجمهورية في سن شبابية. ويوم الاثنين 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1969 اجتمع في القاهرة وفد لبناني يترأسه قائد الجيش العماد إميل البستاني، ووفد فلسطيني برئاسة ياسر عرفات، ومن الجانب المصري وزير الخارجية محمود رياض ووزير الحربية (أي الدفاع بعد تعديل التسمية) الفريق أول محمد فوزي، رحمة الله على الجميع.


ورغم ثقل هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967 على عبد الناصر فإنه بذل ما هو أكثر من الوسع وفي شخص دبلوماسية محمود رياض وعسكرية محمد فوزي لإنجاز «اتفاق القاهرة» الذي ارتضاه لبنان مسايراً وليس مقتنعاً. وبموجب الاتفاق الذي كنتُ أغطي لصحيفة «النهار» وقائع مداولات سبقته وتوضيحات خصني بها السفير محمد صبرا (رحمة الله عليه) تتعلق بوطأة الجانب المصري على الجانب اللبناني من أجل التوقيع، أُجيز للفلسطينيين المقيمين في لبنان «حق العمل والإقامة والتنقل والسماح لهم بالمشاركة في الثورة الفلسطينية من خلال الكفاح المسلح ضمن مبادئ سيادة لبنان وسلامته». وينص الاتفاق على «تسهيل مرور الفدائيين مع ضبْط تصرُّف كل أفراد المنظمات وإيجاد انضباط مشترَك بين الكفاح المسلح والجيش اللبناني»، إضافة إلى أمور ذات طابع تنظيمي وطبي. أما الأكثر أهمية فيتمثل في آخر ثلاث نقاط من البند المتعلق بتنظيم العمل الفدائي ذي الخمس عشرة نقطة. والنقاط الثلاث هي «تستمر السلطات اللبنانية من مدنية وعسكرية في ممارسة صلاحياتها ومسؤولياتها كاملة في جميع المناطق اللبنانية وفي جميع الظروف» و«يؤكد الوفدان أن الكفاح المسلح الفلسطيني عمل يعود لمصلحة لبنان كما هو لمصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم» و«يبقى هذا الاتفاق سرياً للغاية ولا يجوز الاطلاع عليه إلاّ من قِبَل القيادات فقط». من هنا جاء اقتباس «حزب الله» لثلاثيته التي هي موضع أخْذ ورَد «شعب. جيش. مقاومة».
غلب الشغف بالسبق الصحافي على واجب الإعلامي مثل حالنا الأخذ في الاعتبار حساسية الأمن القومي، وغادرتُ القاهرة على وجه السرعة ومعي من الأوراق التي أمكنني الحصول عليها ما تُعتبر وثائق لا يجوز نشْرها. وفي هذا التصرف تكون حالة الشغف تكررت بعد تزويدي «النهار» من القاهرة بملف تحقيق بالغ السرية مع مدير المخابرات زمنذاك أحمد كامل (22 مايو/ أيار 1971)، ثم بعد نشْر مداولات حول الدفاع العربي المشترَك، أحد البنود التي استغرقت ساعات من جلسة القمة العربية السابعة في الرباط (26 أكتوبر 1974) وهي القمة التي أكدت حق الشعب الفلسطيني في إقامة السلطة الوطنية المستقلة بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني. وهذا القرار كان الخطوة الأُولى على طريق قيام السلطة واتخاذها من مدينة رام الله مقراً مؤقتاً لها.


لم يصمد اتفاق القاهرة لبنانياً لأن الجانب الفلسطيني وظَّفه لمصلحته، معتبراً الالتفاف الشعبي اللبناني حول العمل الفدائي، حتى إن أجراس الكنيسة كانت تُقرع عند مرور موكب تشييع جثمان قتيل فلسطيني من حي تلك الكنيسة، حالةً دائمةً وحقاً مكتسباً فحدثت التجاوزات وتكاثرت، الأمر الذي عجَّل بأن الوجود الفلسطيني بات مادة في المشروع بالغ السوء، ونعني به الحرب الأهلية التي كانت الحساسيات الناشئة من «دولة الفاكهاني» والظهور العلني للسلاح الفلسطيني حتى في الشوارع وأحياناً في المقاهي من دواعي تلك الحرب، وكانت السبب في أن فرصة اتفاق القاهرة ضاعت على المقاومة، وفي ترحيل درامي بحراً لأفرادها من لبنان.


قبل ثمانية وأربعين عاماً وفي مثل هذه الأيام من عام 1969 تم اتفاق القاهرة اللبناني - الفلسطيني الذي بالغ الجانب الفلسطيني في بعثرته. يومها تعاونت مصر الدبلوماسية في شخص محمود رياض وزير الخارجية، ومصر العسكرية في شخص وزير الحربية محمد فوزي، من أجل إنجازه بأقل مشقة واجتماعات، نتيجة المظلة الناصرية له.
بعد ثمانية وأربعين عاماً تتبدل طبيعة الإنجاز. يأخذ الرئيس عبد الفتاح السيسي على عاتقه أمر تحويل الطراوة الاضطرارية في موقف «حماس» والليونة الموجبة في موقف الرئيس محمود عباس إلى اتفاق، ويحصر أمر جمْع الرأسيْن بالحلال في جهاز المخابرات المصرية التي مارست في شخص مديرها خالد فوزي، أسلوباً دبلوماسياً صبوراً وأمنياً حازماً. وتلك خلطة تبيَّن أنها ذات مفعول ورأيْنا في نهج اتبعه مدير الأمن العام في لبنان اللواء عباس إبراهيم إزاء موضوع عسكريين رهائن لدى «داعش» مردوداً طيِّباً إلى حد ما لها، مما يعني أن الدبلوماسية الأمنية باتت ورقة فاعلة في الأزمات.
اتفاق القاهرة الفلسطيني – الفلسطيني ما كان ليتجدد السعي له لولا محاولة المصالحة التي تحققت يوم 8 فبراير (شباط) 2007 بفضل رعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز لها. وكان يمكن لها أن تصمد ويلتزم الطرفان «فتْح» و«حماس» بما أقسما عليه أمام الملك خلال جمْعهما في مكة المكرمة لولا أن النظام الإيراني وسوس ما استطاع الوسوسة في صف «حماس» فكانت القطيعة وضاعت على القضية سنوات من التوافق.
ما يتمناه المرء لإخواننا رموز المسؤولية في الموضوع الفلسطيني ألا يضيِّعوا هذه المرة الفرصة التي بارك خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز ليس فقط حصولها وإنما الحث الدائم قبل ذلك على انتهاج رموز العمل الفلسطيني الصراط المستقيم الذي يبدأ بعد المصالحة بالثبات عليها، وينتهي بقيام الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.
أمنية المليار عربي ومسلم أن تتحول المصالحة إلى وحدة موقف. والله يهدي مَن يحتاج إلى الهداية إلى سواء السبيل.