ابراهيم بن عبدالرحمن التركي

في تنشئتنا المبكرة درجنا على متابعة الاختلافات الحادة بين رموز التكوين الثقافي «العربي والمحلي» وأفدنا مما استقامت لغته وندر لغوه، وأسفنا لتجاوز بعضها الحدود الدنيا لأدب الحوار ولم نلتمس لأربابها عذرًا بالرغم من يقيننا بسعة علمهم وامتداد عقولهم، وعجبنا من غضب بعضهم من بعضهم حدًا أوصلهم للقطيعة وربما فاض في خواطرهم فبلغ درجة الاستعداء فضلًا عن الاستعلاء، والحكايات التي تمثل هذه المنحنيات عديدة ليس هذا مجال عرضها وإن كان أكثرها ذائعًا، لكننا لم نشهد مثيلًا لما تبثه الوسائط الرقمية من تدنٍ في لغة الخطاب تجاوز سَقط الشارع ومقتضى التشريع فطغت الذاتية وتراجعت الموضوعية وصار المتاحُ للنشء شتمًا ولطمًا ويأسًا وتيئيسًا مداره دوارُ الشخصنة وسوءاتُها.

- تصعب المقارنة التفضيلية بين «الأنا» المتعاظمة في ذاتها و»الأنا» المقزِّمة لغيرها؛ ففي كليهما بؤسٌ أخلاقي ومعرفي ومجتمعي؛ لتجيء «الأنا» المتزنة غيرَ ظالمةٍ وتأبى أن تكون مظلومة؛ فلا ترتقي السحاب ولا ترتضي التراب، وهي «أنا» شبهُ مغيبةٍ في زمنٍ زاد ضجيجه وعلا غباره، وضمن سياقٍ سائدٍ لا وجود فيه للـ»أنت» والـ»هُو» والـ»هم وهنّ»، وهي الضمائر المعادلةُ للاستئثار والضامنة للإيثار، وهيهات؛ فنفي الآخَر أيسر من إفساحِ حيزٍ يسير ضمن مقعدٍ كبير.

- تحيا الثقافة خلف سُّتُرٍ تحجب الأسرار وتُعلي الأسوار وتحول دون تشخيص الداء واقتراح الدواء، ولا عزاء لجيلٍ يبحث عن نماذج لا تحجب الشمس ولا تُكثف الهمس وتتوازن «أنواتها» مثلما تتألق أدواتها في رسم مساراتٍ للباحثين عن الضوء كما الراغبين في الفيء، ونحتاج - لا ريب - إلى مستوى مختلف من الوعي قادرٍ على التماهي بين «الأنا» وبقية الضمائر؛ يعنيه اكتشاف المكونات المكملة لوجوده الإنساني؛ فلا يضيره التناقض ما دامت «الأنا» والـ»هو» في حجمهما المعقول من غير أن تضيمَا أو تُضاما.

- سيتساءل العابرون فوق السطور عن المعنى كما المبنى، وسيُجابون أن الكتابة الثقافية كما القراءة في فنونها لا تأذن للراكضين أن يروا ولا للمتثائبين أن يفهموا، وليس في الحكاية ترميز أو تلغيز بل إبحارٌ في أعماق الإنسان وإشراق البيان، وبلغةٍ مباشرةٍ فإن معظم افتراقاتنا الموصلة للعداء نتاجٌ لتداخل الضمائر المتكلمة والمخاطبة والغائبة، وبه صعُب الحوار بين أبناء الملة الواحدة وبين ذوي الملل حتى غلب اللجاج وتاه الحِجاج.

- صالحوا الضمائر مع بعضها، ولا تنشغلوا بالكهول والشيوخ؛ ففيهم من يضيء بنفسه ولا يضِنّ بنفيسه، وفيهم من يبحث عن مقعدٍ تحت شمس غاربة، والتفتوا إلى طُلعة الشباب فسترون جيلاً قادرًا على اختراق تابوهات التوجس والتحسس والتنائي والتدابر، ولن يبقى فيه من يشمتُ ويشتمُ ويتندر بحراكٍ أو قرارٍ أو توجه أو توجيه محتفظًا بأناه أمام الضمير الموازي ومطمئنًا إلى أن الضميرين يحملان له مع الاختلاف الودَّ وربما أضافا الورد.