عبدالله بشارة

 منذ فترة كنت في بيت واحد من النسايب في الأندلس، وببساطته سألني عن الليبرالية وتطوع بتعريفها، بأنها تعني تجاوز الخطوط الحمراء في السلوك الاجتماعي، وكان هذا المفهوم مغروساً في دماغه، فلم أجد سبباً لمناقشته وهو من أهل البراءة والمتأثرين بما يسمعون.

كان ذلك منذ فترة ونسيت الموضوع، لكنني تذكرت بأن الساعين لإشهار الجمعية الليبرالية في الكويت لم ينجحوا في إقناع السلطات المسؤولة، ومن ضمن العقبات أن الليبرالية عنوان غير مستساغ، فتذكرت تلك الدردشة مع ابن أختي المتشدد في سوء الفهم والمتصلب في الحفاظ على الجمود ورفض الاجتهادات وأقوال المنطق.
الليبرالية ليست العلمانية، التي تتحرك في فضاء مفتوح بلا سياج ديني وبلا روحانيات وبلا قيم الأديان السماوية العالية، بينما الليبرالية تعيش بشحنات دينية عميقة ترفع الليبرالية إلى نهج الاعتدال في السلوك والإنصاف في الأحكام وإظهار التسامح مع مخالفي الرأي وتأييد التباينات في المواقف ولا تفرض سوء النوايا وترفض التطرف وتسعى لتحريك الجمود، وتخدم تقاليد المجتمعات وتنفتح على الحضارات وتقتبس ما يفيد، وتتداخل مع التبدلات العالمية وتواكب المستجدات وتنظر عبر أفق واسع للمصلحة العامة، فلا تطعن بأحد بسبب وشايات، وتعيش في بيئة ديموقراطية، وتفني جهدها في الحفاظ على شروط الديموقراطية وتتولى الدفاع عنها، فهذه القيم هي ما تدعو إليه جميع الأديان، الصدق والجهد والأمانة في العمل، وعشق الاجتهاد، والبحث عن المعرفة ومتابعتها والتنقيب عن الحسن إلى آخره من شروط العمل التي نقرأ عنها في الدول المتطورة، وفيها أسرار النجاح.
شاهدت أكثر من مئة وخمسين جمعية عامة تعمل في الأمم المتحدة، لا تمثل الدول، وإنما تمثل ضمير المجتمعات في العالم، شاهدتها تندد بسياسة جنوب أفريقيا في التفرقة، وشاهدتها تدعو رجال الدعوة والدين من كل جنسية ومن جميع بقاع العالم، لكي يتحدثوا في قاعات الأمم المتحدة لكشف أسرار السياسيين وآلاعيبهم، وليقدموا معلومات دقيقة عن بيع السلاح إلى جنوب أفريقيا رغم قرار مجلس الأمن بحرمانها من السلاح.
كانت لي تجربة مع جمعيات النفع العام، فقد كنت رئيساً للجنة المكلفة بتطبيق قرار حظر السلاح على جنوب أفريقيا، وترأستها سنتين، ولم يكن لي مصدر للمعلومات سوى هذه الجمعيات التي تلعب دور المراقب والمحاسب أكثر من مجلس الأمن نفسه، فهذه الجمعيات تفضح العيوب وتكشف الأسرار وتعري النفاق.
الإدارة الليبرالية في الدول الغربية سمحت بالمساجد وبمدارس الوعاظ وأنشأت الجمعيات لتسهيل حياة اللاجئين وتبرعت لإيوائهم، والدفاع عنهم وواجهت الحكومات لتأمين العدالة السياسية والاجتماعية لهؤلاء المهاجرين الهاربين من عيون الأنظمة، ومعظمهم من دول إسلامية في الشرق الأوسط وأفريقيا.
نحن في الكويت بحاجة إلى حماة الدستور الذين يتولون حراسة مبادئه والحفاظ عليه وحمايته من الانتهاكات ومن التحايل واعتباره الميثاق التوافقي المجتمعي المحصن بوحدة وطنية متينة، وملاحقة من يستفز المشاعر الوطنية عبر إثارة الفتن الطائفية والانشقاقات الطبقية، وكذلك مواجهة الآخرين من السياسيين الذين يدّعون الولاء للدستور لكنهم يخفون مشاعرهم في تغيير الدستور للوصول إلى تشريعات لا تلائم الكويت.. الدولة المدنية منذ ولادتها، ويسعون إلى دولة دينية تنقض على مبدأ الحريات وتخنق الانسان وإبداعاته.
يولد الإنسان حراً.. هذا أبرز مبادئ الليبرالية، يولد في عالم تحكمه أنظمة مختلفة سعى بعضها لتحويل الإنسان إلى آلة بلا مشاعر تسرق كبرياءه وتزوّر إرادته وتسد خياراته وتحرمه نعمة الحرية وتفرض عليه قرارات الاستبداد ليعيش منتظراً الخلاص، تحطمت آدميته وتلوثت إنسانيته، وعلى من يعترض أن يدقق في مصير الأنظمة العربية من الجوار العراقي الذي دمره حكم الجهل والاستبداد، إلى سوريا الحزينة التي انقض عليها حكم الطوائف البليد، إلى مصر التي كانت تفخر بحرياتها واستقرارها ثم انقضت عليها المغامرات والاضطرابات فصارت تجاهد لإطعام مواطنيها.
يشكل الليبراليون في جميع بقاع العالم الصوت العالي دفاعاً عن الهوية الوطنية، وهم رأس الحربة في تأكيد دولة القانون، وفي الحفاظ على تنوع المجتمع، وفي الإيمان بأن من الاختلاف ينبع الإبداع وتعلو المجتمعات.
نحن في زمن تتعرض فيه الدولة الوطنية إلى هجمات التخريب الإرهابية التي تستهدف القضاء على مرتكزات الدولة الحديثة وهدم كيانها، بالعنف والانتحارية المتطرفة وهدم الوطن واستبداله بالولاء للفوضوية المتوحشة وعنوانها «داعش» و«القاعدة».
باختصار ترتفع الأمم بإسهامات أبنائها في بيئة مستقرة تشجعهم على المبادرة في مسارات تنموية تثمر في مجتمع حر يثمن حق التفوق.
هذه مشارب النهج الليبرالي الذي مازلنا نتحفظ عليها رغم أن ظروف اليوم تستدعي الاستعانة بمزاياها.
وستظل النزعة السلبية معنا إلى أن نتعرف على هوية الليبرالية كما عرفها أهل القرار والابتكار.