نديم قطيش

لا شيء بعد استقالة حكومة سعد الحريري، سيكون كما كان قبله في لبنان.

أسرار الأيام الطويلة منذ ظهيرة الرابع من نوفمبر (تشرين الثاني) الحالي، بانقلاباتها وتقلباتها، ستظل تلحّ، وثمة من سيبحث فيها لرواية أو كتاب. السفارات تستقصي، والحكومات تعبّر عن درجة عالية من الارتباك، والصحافيون حائرون بين الوقائع التي حصلت، وتلك التي نسجت، لتوظيفها في معركة هذا أو معركة ذاك. أبطال حقيقيون، وآخرون وهميّون، ومعارك جرت، وأخرى طبخت في غرفة، ولم نسمع منها أو عنها إلا على صفحات الصحف! رهانات أجهضها فائض الحماس، أو فائض العناد، لا فرق، وأخرى تولت الحكمة الوصول إليها، وثالثة ولدت من رحم التجريب، فانقلب صاحب القول على قوله، وصاحب التموضع على تموضعه، ورابعة بقيت معلقة تحسم أمرها الأيام التي عساها لا تطول!

كل هذا سيحال إلى التقاعد في اللحظة التي يتقدم فيها سعد الحريري باستقالته إلى رئيس الجمهورية، وفق الأعراف الدستورية اللبنانية، ويسمع منه ما أصرّ الرئيس على سماعه. وسننتظر كتاباً يصدر أو تحقيقاً صحافياً ينجز لنعود لنبش هذه التفاصيل والوقائع.

ما يعنيني أننا أمام جديدين... لبنان جديد، وسعودية «أجدّ».

لبنان الجديد، هو لبنان ما بعد تسوية انتخاب عون رئيساً للجمهورية، بكل تفاصيل هذه التسوية. لبنان الجديد هذا، ليس أمام مسألة تمثلها السعودية، بل أمام مشكلة يمثلها تورط لبنان بالعدوان الممنهج على أمن الخليج بمشاركة مباشرة وحثيثة ومثبتة من ميليشيا «حزب الله» المشاركة في الحكومة. 

لم يكن وزير خارجية لبنان جبران باسيل موفقاً حين دعا السعودية لحل مشكلاتها مع إيران في إيران وليس على حساب اللبنانيين. فهذا النوع من التذاكي هو تماماً ما سقط مع التسوية، ساعة أعلن الحريري استقالته، وبات على اللبنانيين أن يتحملوا مسؤوليات وتبعات ميليشيا «حزب الله»، وأفعالها، أياً تكن الحكومة القائمة أو رئيسها أو مكوناتها. الأمور في الواقع أبسط بكثير من تعقيدات التسوية وشروطها ومتطلبات مراقبة التزام الأطراف بها، وشحذ الهمم والعقول لتفسير ما يجري في ظلها من وقائع؛ سياسية وعسكرية وأمنية! 

الأمور أبسط بكثير. على «حزب الله» أن يكفّ عن كونه ذراعاً إيرانية عسكرية تهدد أمن الخليج لصالح المشروع الإيراني. وعلى الدولة اللبنانية أن تكفّ، تحت عنوان التسوية، عن أن تكون غطاء لـ«حزب الله» في أدواره هذه عبر احتضانه ضمن الأطر الشرعية للنظام السياسي، وفقدان كامل القدرة على ضبط خياراته العسكرية في الوقت نفسه. 

ولأن «حزب الله» لن يكفّ؛ أقله في المدى المنظور، ولأن الدولة لن تتشكل مؤسساتها، لا سيما الحكومة، لتكون الغطاء لـ«حزب الله»، فالأزمة مرشحة لأن تطول أكثر، وأن تتعفن الحياة السياسية والوطنية اللبنانية أكثر؛ مما ينذر بانهيارات متلاحقة في الاقتصاد والأمن والعلاقات الأهلية.

السعودية الجديدة دولة شابة متوثبة لصنع التقدم في ظل الحماس لمغادرة أثقال تقاليد سابقة؛ سواء أكان ذلك في العلاقة مع لبنان وغيره، أم في العلاقة مع الداخل السعودي نفسه.

خليط من نقلة سعودية في السياسة والأمن والسياسة الخارجية، ورغبة جامحة في تكوين «دولة إنجاز» في مختلف الميادين، تحمل كل مفردات التأسيس والجديد والمختلف.

لا تلتفت السعودية الجديدة لنوستالجيا العلاقات التاريخية التي جمعتها بلبنان، وهي تبدو أقدر على رؤية لبنان الجديد من اللبنانيين أنفسهم، بما هو دولة محتلة من قبل ميليشيا «حزب الله».

في مقابلته التلفزيونية، تحدث الرئيس سعد الحريري عن اليمن، واستعمل عبارة «هناك سعوديون يموتون» بسبب «حزب الله»؛ إما مباشرة، أو من خلال من يدربهم الحزب في اليمن. وضع يده في قلب الجرح. فليست مشكلة السعودية مع «حزب الله» أنه يملك موقفاً مختلفاً عن السعودية في سوريا أو العراق. ولا مشكلة السعودية مع «حزب الله» أنه شيعي الهوية. المشكلة أن «حزب الله» بات مصدر اعتداء مباشر على السعودية باسم المشروع الإيراني، ومشكلة لبنان أن «حزب الله» جزء من شرعية الدولة فيه. قال الحريري مباشرة إن وقْف الدور الإيراني عبر «حزب الله» في اليمن، خطوة ضرورية، قبل بدء حوار إيراني – سعودي، تزعم إيران أنها تريده، ويروج له وزير خارجيتها الباسم محمد جواد ظريف.

ووقْف الدور الإيراني عبر «حزب الله» في اليمن، خطوة ضرورية أيضاً قبل أن ينتظم النصاب السياسي والمؤسساتي في لبنان، وتنفتح سبل الحوار مع «حزب الله» على بقية وظائف سلاحه للوصول إلى ما سماها الحريري «تسوية حقيقية ونهائية»!
لا تقل الأزمة التي نحن بصددها عن هذا، ولن تكون لها مداخل إلى الحل غير اليمن، ليس بصفته يمناً، بل بوصفه نقطة ارتكاز إيرانية لضرب السعودية.

ليس للسعودية الجديدة مطالب في لبنان الجديد. لها مطالب منه ضمن مسؤوليات الدول بعضها عن أمن بعض. لن يطلب السعوديون من لبنان أن يقاتل معهم بمثل ما تطلب إيران من «حزب الله»؛ بل تطلب ألا يقاتلها بعض من أهله. مسؤولية بهذه البساطة... مسؤولية بهذه الاستحالة.