عبد الإله بلقزيز

للدين، عند المؤمنين، سلطةٌ معنويةٌ، ابتداءً، قبل سلطته المادية عليهم، وهي ممثَّلَة في ما قدَّمه لهم من علم بحقائق الوجود، ما كانوا ليتحصّلوا علماً بها من دون وحي، وما رسمه لهم من خطوطِ سيْرٍ على نظامٍ من القيم الأخلاقية قويمٍ قصد الخلاص والفوز بالوعد الإلهي.

لذلك يشعر المؤمنون بالأديان تجاه هذه الأديان بما سمّاه محمد أركون «مديونية المعنى»، أي الشعور بما عليهم من ديْنٍ كبيرٍ تجاه أديان منحت معنًى لوجودهم، ووفّرت لهم موارد من شأن استخدامها أن يؤمِّن لهم سُبُل النجاة. لذلك يقابل المؤمنون فكرةَ الله بالتعظيم والتبجيل والتقديس، لا خوفاً منه ولا خشيةَ عقابٍ فحسب، بل من باب العرفان تجاه مَن مَنَحهم نعمة الوجود، وهيَّأ لهم أسباب الفوز بوعده. وهكذا بُودِل العطاء الإلهي من المؤمنين بالحبّ والمحبّة، وامتدَّ الشعور عينُه إلى الأنبياء والرُّسُل، بما هُمْ حَمَلَةُ التعاليم الإلهية إلى الناس، والدعاةُ إليها والشُّرّاحُ والأساتيذ، والأُسوةُ الحَسَنة، والمميَّزون عن سائر الناس بما تمتَّعوا به من اصطفاءٍ إلهي.
ولكن للدين، فوق ذلك، سلطةً مادية على المؤمنين، وهي تتمثل في سلطة الإلزام الإلهيّ (والنبويّ استطراداً)، وبيانُ ذلك أن خطاب الوحي - في الأديان التوحيدية- يقدِّم نفسَه (للمخاطَبين به) في صورة أوامرَ ونواهي تفرض على المخاطَبين أولاء (من بلغوا منهم رتبة التكليف) أن يأتمروا بها وينْتَهوا، وهي تشمل العقيدة والشريعة والأخلاق، ويقترن النصُّ الدينيُّ عليها بالنصّ على الأحكام المترتّبة على التزامها أو نقضها. والأحكام هذه جزائية وعقابية: معنوية و- خاصة - مادية (بدنية)، يُوقِعُها الله على الناس في الدنيا و - خاصة - في الآخرة. وهكذا تتمتع السلطة المادية للدين بطابع الإلزام الذي يتولّد من الامتثال له، أو عصيانه، حسابٌ مادي عسيرٌ يوجبُه الحساب الأخرويّ. إنّ حساب الناس على إيمانهم وضمائرهم وأفعالهم الدينية، ومدى التزامهم أحكام الدين أو عدم التزامها، إنما هو ممّا ينتمي إلى الحساب الأخروي الذي يقيمه الله - بحسب الأديان الكتابية كافة- للعالمين، إذِ الله وحدهُ مَن يَعْلم البواطن، واللهُ وحدهُ من يملك سلطةَ التقدير وترتيب الحكم، وهو وحدهُ من يملك حقّ العقاب وحقّ المغفرة، لأنه وحده مَن يملك سلطة الخَلق والفناء، وليس لأحدٍ غيره حقٌّ في أن يشاركَهُ السلطة تلك، لأن مشاركَته اللهَ في ذلك شِرْكٌ في عقيدة التوحيد.
ما دون هذه السلطة الإلهية - سلطة الحساب الأخروي- لا سلطةٌ أخرى على الناس وضمائرهم باسم الدين تجوز، باسم الحسبة مثلاً- أو الاحتساب- أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما شابه ذلك من دعاوَى وعناوين، لأنّ مَن يأتي الحقّ في ممارسة مثل هذه السلطة باسم الدين، إنما يمارس سطواً صريحاً على وظيفةٍ دينية ليست له ولا لأحدٍ غير الله ورسوله (في الإسلام على الأقل)، ويؤسِّس في الدين بدعة مذمومة هي السلطة الدينية. 
وقد يثور هنا سؤالٌ مشروعٌ في المسألة: إذا كان الحساب الدينيُّ، بالتعريف، حساباً أخروياً يعود إلى الله وحده بوصفه مالك الخلق والوجود، والعليم بالبواطن والضمائر، أَفَهَل ينعدم الحساب في الدنيا انعداماً كلّياً ؟ وماذا لو أتى بعضُ الناس من الأقوال والأفعال ما ينال من عقائد الأغلب، أو ما نتج منه إرغامٌ لهم - أو لفئة منهم- على اعتناقِ رأيٍ مخالفٍ كَرهاً ؟ نجيب، ابتداء، إنه ما من حسابٍ دينيّ في الدنيا يعود إلى سلطةٍ أخرى تنوبُ منابَ الله. ولكن نستدرك بالقول إنّ جهةً وحيدةً مخوَّلةً بالحقّ في الاحتساب الدنيوي في الأمور الدنيوية هي الدولة، لأنها مفوَّضةٌ من المجتمع بالقيام بذلك نيابةً عن الشَّعب كلِّه. ولكن، بما أنّ في الأمور الدنيوية ما له علاقةٌ بالدين، أو ما يدخُل الدين في تكوينه أو في الصّلة به، فإن الدولة هي الجهة الوحيدة التي يعود إليها أن تتدخّل في دنيويات الدين، أي في مظاهره الدنيوية ذات العلاقة بالحياة العامّة. ويدخل في ذلك حقُّها الحصري في إدارة المؤسسات الدينية، والإشراف على أماكن العبادة، وسلطة الإفتاء والتأويل الرسمي للنصّ الديني، وحماية الحرية الدينية والحقّ في الاجتهاد، وتجريم التعصب المذهبي والتكفير، أو التحريض على الجماعات الدينية المخالفة، ناهيك بالإشراف على التعليم الديني، وإخضاع كلّ نشاطٍ دينيّ (دعوي) للرقابة القانونية.. إلخ. 
الدولة الحديثة لا تشْتقُّ شرعيتها من الدين وإنما من التوافق ومن العقد الاجتماعي، ولا تحكم باسم الله وإنما باسم الشعب، وبالتالي لا موجب للاعتقاد بأن التسليم للدولة بأداء بعض الوظائف الدينية شرعنةٌ لصيرورتها «دولة دينية». بل قد يكون أداؤها الوظائف الدينية تلك أقصر سبيل إلى قطع الطريق على أزعومات «الدولة الدينية» التي خامرت أذهان رجال الدين في الماضي، وتخامر أذهان الجماعات الأصولية وجماعات «الإسلام الحزبي». 
إذا كان الحساب الأخروي شأناً إلهياً صرفاً لا دخل لأحد فيه - بما في ذلك الدولة- وإذا كان الحساب الدنيوي (المدني) يعود إلى الدولة، على نحوٍ حصريّ، فما موقع علماء الدين في المسألة؟ لا يملك هؤلاء السلطة الدينية التي لله وحده، ولا السلطة المدنية التي للدولة وحدها، ولكنهم يملكون رأس مال معرفياً هو: المعرفة بالشؤون الدينية، لكنه لا يخوِّلهم من سلطةٍ على الناس إلاّ السلطة الرمزية التي تمثلها معارفُهم. ولذلك، ليس بين أيدي العلماء أولاء إلاّ آراء واجتهادات، وهذه غيرُ ملزمة لأحدٍ إلاّ من ارتأى أن يأخذ بها طواعيةً. وإذا كان القانون الإلهي مقدَّساً، لأنه ملزِم، والقانون المدني مقدّساً، لأنه ملزِم، فلا قداسةٍ لرأيٍ أو اجتهاد ليس ملزِماً بالضرورة.