طيب تيزيني 

يعيش العالم العربي راهناً حالة قد تكون بداية الدخول في الموت السريري، إنْ لم تكن قد دخلت فيه فعلاً، فقد تكونت علامات على ذلك الحال تشير بشيء من الخجل والتحفظ، إلى أنها حال «طبيعية». أما العمل الأكثر كثافة وحضوراً وإصراراً على استمرار تلك الحال في اللعبة التي تمارس من قبل اللاعبين، سواء في الداخل العربي، أو في خارجه، فيظهر فيما يقوم به مخرج العملية أو مخرجوها. وقد نضع يدنا على هذه الحصيلة المحتملة فيما يدل على نفسه بقوة هنا، وهو عملية التمزيق والشرذمة، وربما تظهر هذه العملية الأخيرة في الاتجاهات التالية: ما هو موحّد يجب أن يصير كثيراً بعد تمزيقه، وما هو ذو هوية وطنية أو قومية يجب أن يُحوّل إلى نقائضه المحتملة، فالهوية العربية تُحوّل إلى ذرّات من تكوينها، فالوطن العربي يصبح أوطاناً متعددة، وتعددية هذه الأوطان تصبح مجموعات طائفية، أو عرقية أو دينية متصارعة.

أما الهويات الوطنية المنضوية تحت كل شعب من شعوب الأقطار العربية فتُحوّل إلى ذرات ووحدات بشرية مفتتة مفككة. وكذلك الأمر المتصل بالأديان فهنا نلاحظ صراعات الطوائف التي تشكلت في التاريخ، وقد يظهر ذلك في مجموعة المِلل و«الملالي»، الذين قد يصعب البحث عن جذورهم التاريخية.

وبهذه الطريقة يُقسّم الوطن الواحد إلى آحاد وربما نصل إلى «أضلع» و«امتدادات» على ذلك النحو الآخذ في الحضور المفتوح والانقسامي، مما يزيد الاضطراب في هذا العالم، ويمزق نسيجه في النواحي المجتمعية والقيمية والجغرافية، إضافة إلى كل ما يفصح عن نفسه تحت عناوين جديدة أخرى أو ما يمكن أن يظهر جديداً من تداعيات كارثية.

والآن، إذا ما نظرنا إلى المسألة في تجلياتها المتعددة، من العام إلى الخاص ومن الشامل إلى الجزئي، وهو ما يُفصح عن نفسه في سياق التعثر الواسع الذي نشاهده الآن في العالم العربي، فإننا نواجه حالة ليست جديدة تماماً في ظهورها وحضورها. ففي الوطن الواحد (العربي) نواجه أوطاناً موزعاً حضورها على التعددية الراهنة والتاريخية القديمة. وهذه التعددية يمكن أن يكون جرى اللعب بها وبالعلاقات فيما بينها، خصوصاً في القرن التاسع عشر في عهد الاستعمار والحديث «الموسّع» عن الحضارات والطوائف والخواص الإثنية والتاريخية الخاصة بها.. بحيث نجد أنفسنا أمام «حقائق» تقدم على أنها علمية، وهي ليست كذلك.

ومن هنا، نواجه من يرسل تحذيراً، ودفعاً باتجاه اختراق حالات اليأس والأحزان، وهذا ما واجهناه في الخطاب الإبداعي الشعري الراقي في بنيته الشعرية، والعميق الدقيق في تأسيسه البنيوي، ومن ذلك مثلاً ما نجده لدى الشاعر العربي عبدالحق حقي الأعظمي، فقد كتب أشعاراً عبّر فيها عن آلامه وآماله في محاولات التصدي لتلك الحال المأساوية، ومن ذلك نص تحت عنوان «أعجب العجب من أحوال العرب»، حيث يقول:

يا أمة العزة القعساء مَالَكِ قد.. أصبحت نهباً بأيدي كل منتهب

أصبحت هاويةً من كل مرتبةٍ.. فرعت ذروتها العليا من الرتب

أصبحت فائضة بالذل خائضةً.. في منقع السوء للأذقان والركب

كفى مناماً وتفريطاً، كفى وكفى.. عيباً سواكم به في الناس لم يعب

كفى افتراقاً، كفى جهلاً، كفى عنتاً.. كفى شتاتاً، كفى يا أمة العرب

ذلك ما أعلنه شاعر حَمل هموم الأمة العربية وشعوبها، محذراً منذراً من «الأعظم» الذي قد يأتي، موجهاً خطابه إلى الحكماء والشرفاء وأهل الحب للوطن. إن الدول العربية جميعاً الآن أمام التحدي الصارم بالمعنى الوجودي التاريخي والجغرافي، المحدد على النحو المنطقي التالي، إما الدخول في التاريخ دخولاً حضارياً حقاً، وإما..؟ وخصوصاً منها ما يجد نفسه الآن أمام مواجهة العالم، ومن ثم نجد أنفسنا أمام الخيار الفعلي التالي، فإما الاستجابة لتحديات العصر، وإما القبر، إننا حقاً نواجه ما لم نستطع الهرب منه، دمقرطة حداثية اقتصاداً وثقافة وديناً مع الموازنة الجديدة والإنماء والعقلانية والعدل والعدالة.