فهد الدغيثر

منذ أن بدأت السعودية بتبديل ثيابها قبل عامين، ودول العالم والمنطقة تحديداً تراقب بحذر ما يحدث في الداخل السعودي وخارجه. الذي يهمني في هذا المقال هو دول المنطقة والمحيط العربي- الإسلامي. بين هؤلاء فريق تفاءل وشارك السعوديين فرحهم وتفاؤلهم بمستقبل مشرق وواعد يحمل الأمل ليس فقط للمملكة بل للعديد من الدول العربية الأخرى. المملكة تشكّل في النهاية عمقاً عربياً وإسلامياً لعدد من دول المنطقة، وهذا في غاية الأهمية لدى العقلاء. في المقابل، هناك فريق آخر شعر بالمرارة وعسر الهضم. كان هذا الفريق يراهن على فشل السعودية، مستنداً في ذلك إلى صعوبة نقل المؤسسة الحاكمة إلى الأجيال الشابة من الأسرة بعد عقود من تداول السلطة بين أبناء الملك عبدالعزيز. يؤيد تحقيق هذا الرهان كما توهّموا انخفاض أسعار النفط الذي يشكل الدخل الأساسي لخزينة البلاد، وبالتالي عجز الحكومة عن الوفاء بالتزاماتها.

المثير هنا هو وجود مثل الفريق الأخير، ذلك أن المملكة العربية السعودية، ومنذ انتهاء المواجهة مع مصر عبدالناصر في اليمن قبل نصف قرن، لم تدخل في نزاعات مع أي طرف أو أطراف أخرى. حتى تلك الحرب لم تكن السعودية مخيّرة في خوضها، وهي حالة تشابه كثيراً ما وجدنا أنفسنا مجبرين عليه مؤخراً وفي اليمن أيضاً، ولكن هذه المرة لمواجهة المد الفارسي.

تاريخ طويل من السلام والعلاقات الدولية المحترمة بدأ واستمر، منذ عهد الملك المؤسس عبدالعزيز. نعم ظهرت عصابات وقطّاع طرق تلبسوا زوراً بالدين الحنيف، ووجدوا في بعض الموروث في الكتب الصفراء ما ساعدهم على بناء الوهم، لكن السعودية نجحت في النهاية في تدميرهم على رغم التكاليف الباهظة سياسياً ومالياً. عموماً، رافقت هذا التاريخ العاقل بمجمله مواقف أخلاقية عالية نحو «الأشقاء»، مارسها ملوك الدولة على مدى هذه الفترة الطويلة. فلسطين كانت وربما لا تزال القضية الأهم، ولا أجد الحاجة إلى الخوض في تفاصيل هذه المواقف. مصر ولبنان والسودان واليمن وأزماتها السياسية والمالية التي لا تنتهي، حظيت بنصيب الأسد من الدعم المالي السعودي، خلافاً للقروض التي لا يسددها أحد. هذا فضلاً عن المواقف الإنسانية الكبرى في أزمنة حدوث الكوارث الطبيعية، وشملت دولاً عديدة حول العالم، بما في ذلك إيران على رغم العداء الواضح من جانب ساستها وشيوخها.

يلاحظ المراقب مؤخراً أن أنشطة الفريق الآخر آخذة في النمو، ويعزز ذلك تردد بعض «الإخوة» في دعم مواقف المملكة الأمنية. اتضح ذلك جلياً بعد إطلاق صاروخ عابر المسافات من اليمن وتم اعتراضه شمال الرياض، وكشفت التحقيقات أن هذا الصاروخ إيراني الصنع، وأن فريقاً فنياً من «حزب الله» اللبناني الطائفي هو الذي ساعد الحوثي في تجميعه وإطلاقه. المملكة وجدت ذلك بمثابة ما يشبه إعلان الحرب، وبدأت بالتحضير للقيام بالرد المناسب وفي الوقت المناسب. فوجئنا قبل أيام بأن عدداً من هؤلاء «الأشقاء» اختار الصمت في ليلة التصويت على قرار للأمم المتحدة يطالب بالتحقيق مع إيران في شأن حقوق الإنسان ومعاملتها السجناء. قبل ذلك وعلى تبعات مواقف المملكة ضد تآمر حكومة قطر وضد منظمة «حماس» وتعاونها الفاضح مع إيران وضد تغلغل «حزب الله» في القرار اللبناني، هي الأخرى واجهت تردداً، إلى أن حسم التصويت في نهاية الأمر في قرار جامعة الدول العربية الأخير. لا أرغب في سرد التفاصيل الأخرى التي نشعر معها بالمرارة، ويكفينا هنا أن نخلص إلى نتيجة بل وواقع جديد لطالما تحاشينا الخوض فيه.

هذا الواقع يقول إن المملكة سياسياً وعسكرياً ليست في حاجة إلى أي من هذه المواقف الرمادية من الأشقاء العرب. السعوديون غير محتاجين إلى الاستثمار في أي مكان خارج المملكة باستثناء دولتين أو ثلاث في المحيط العربي المجاور، وهي دول ناضجة ومتقدمة كثيراً عن دول الضجيج والبكائيات. لدينا في بلادنا ما يكفي من فرص الاستثمار الواعدة، ولدينا ما يكفي من القوى العاملة، ولدينا تحالفات ومعاهدات وعقود تجارية وصناعية مع دول العشرين في غربها وشرقها. الدول العظمى هي من يشتري منتجاتنا، وهي من نشتري منها سلعنا وعتادنا العسكري. للتأكد من هذه الحقائق، ما عليك عزيزي القارئ إلا مراجعة قوائم التبادل التجاري بين المملكة ودول العالم، والأرقام لا تخطئ. نتساءل وبمرارة من يرتجي خيراً أو تنمية أو بناء من أمة لا تزال تستمع إلى «معمّم» في الضاحية الجنوبية لبيروت يظهر على الشاشات من مخبئه بين حين وآخر، ليطلعها على «حالة الاتحاد» (State of the Union) المفصلة والمطرزة بمقاييس قم وطهران؟

السعودية صبرت كثيراً على أذى المحب، وتعاملت بكبرياء مع سلوك بعض الساسة المراهقين هنا وهناك. اليوم وعلناً تواجه هذه الدولة الكبيرة بقيمها ومقدساتها ومواقفها وتاريخها المشرف عدواً واحداً لا يخفي شروره وهو إيران الفارسية. من يقف معها ضد هذا التمدد الفارسي هو الصديق الحليف، حتى لو لم يكن عربياً ومسلماً، ومن يتردد أو يعلن الوقوف مع العدو هو العدو. هذه هي الحقيقة التي حاولنا ومنذ وصول الخميني إلى الحكم في إيران تفادي الحديث عنها أملاً بتغلب الخير على الشر.

برنامج المملكة ورؤيتها وأنظمتها الجديدة وتقدمها في مستوى الشفافية والانتماء إلى أدوات العصر والتنمية المستدامة تتطلب منا التركيز. عكس ذلك هو تشتيت الاهتمام وخلط الأولويات والفشل بعينه، وهو ما يحاول بعضهم جرنا إليه مجدداً، وأتمنى أن نعي ذلك. هذا ليس رأي كاتب هذه السطور، بل أصبح على لسان وفي عقول الغالبية العظمى من الشعب السعودي، ولا أرى ذلك خافياً على صناع القرار في المملكة. أقول و «من غير مطرود» كما يقال... وداعاً يا «أشقاء».