راجح الخوري

 عشية وصوله إلى إيطاليا يوم الأربعاء الماضي، قال الرئيس ميشال عون لصحيفة «لا ستامبا»: «لقد انتهينا للتو من الاستشارات التي قمنا بها مع مختلف القوى السياسية في الحكومة وخارجهاً، وبالتأكيد سيبقى سعد الحريري رئيساً للحكومة»، هذا الكلام جاء مباشرة بعد تصريح الحريري يوم الاثنين إلى شبكة «سي نيوز» الفرنسية، الذي لوّح بالانتقال من حال التريث إلى المضي في الاستقالة، إذا لم يقبل «حزب الله» تغيير الوضع الراهن.

عملياً، كل ما جرى في الأيام الماضية التي تلت استقالة الحريري ثم إعلانه التريث، هو سلسلة من المشاورات الداخلية أجراها عون مع رؤساء الأحزاب، وانتهت بقول الرئيس بري: «تفاءلوا بالخير تجدوه»، و«بسيلفي» التقطه الحريري مع الصحافيين قائلاً: «ألا ترون أنني ضاحك»؛ لكن لا التفاؤل بالخير حلال المشكلات في لبنان، ولا الضحك خاتمة الأحزان في هذا البلد السعيد.
على خطٍ موازٍ أشار عون إلى أن الأزمة كانت موضع اهتمام الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن، إضافة إلى إيطاليا وألمانيا وفرنسا ودول الاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية، ولكن من الواضح والمُعلن تقريباً أن كل هذا الاهتمام يراوح عند النقطة إياها، أي الحرص على الاستقرار في لبنان على خلفية الخوف؛ لا بل الذعر، من أن تضخّ أي فوضى أمنية مئات الآلاف من النازحين السوريين فيه إلى السواحل الأوروبية.
صحيح أن الحريري قال لشبكة «سي نيوز» إن إيران هي سبب تدخل «حزب الله» في أنحاء المنطقة، وإن على الحزب أن يتوقف عن التدخل خارجياً ويقبل سياسة الحياد أو النأي بالنفس، من أجل وضع حد للأزمة السياسية في البلاد، وصحيح أنه قال: «لا أريد حزباً سياسياً في حكومتي يتدخل في دول عربية ضد دول عربية أخرى»، وأنه ينتظر التزام الحياد الذي تم الاتفاق عليه في الحكومة، بعد التسوية السياسية التي جاءت بعون رئيساً للجمهورية وإعادته هو إلى الحكومة، وصحيح أيضاً أنه قال: «لا يمكننا أن نقول شيئاً وأن نفعل شيئاً آخر»، ولكن الحريري يعرف أكثر من غيره أن العبرة في التنفيذ، وفي التزام جاد وحقيقي من «حزب الله» النأي بالنفس عن التدخل في شؤون دول المنطقة؛ سواء من خلال الاتهامات والحملات أم من خلال الانخراط في ميادين الصراع العسكري ضدها، على ما يجري في اليمن وقبلها في دول خليجية وعربية أخرى.


الوسط السياسي في بيروت يجمع تقريباً على أن أزمة الاستقالة ستنتهي بداية الأسبوع، خلال اجتماع للحكومة يرأسه عون ويعلن الحريري خلاله نهاية التريّث، على أساس صياغة جديدة إنشائية تجميلية ترضي الجميع لشعار «النأي بالنفس»، على أن يكون نأياً يشمل الجميع وليس من جانب واحد، ولكن هذا لا يزيل كثيراً من المخاوف عند كثيرين، من العودة إلى المربع الأول للأزمة الطويلة التي تمسك بالوضع السياسي، على خلفية العلاقة الطردية المتناقضة حكماً، بين دولة تحاول أن تسترد قرارها على كل الأرض اللبنانية، ودويلة تقول عندما يصبح هناك دولة ينتفي دورنا!
وهكذا، بين كلام عون إلى صحيفة «لا ستامبا»، وكلام الحريري إلى شبكة «سي نيوز» تمتد مسافة شاسعة لجهة إمكان الوصول فعلاً إلى نأي حقيقي بالنفس عن مشكلات المنطقة، وخصوصاً بعدما سبق أن قال عون إن سلاح «حزب الله» يرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي الذي لن ينتهي غداً طبعاً، ثم أعلن الأربعاء حرفياً «أن الحزب حارب إرهابيي (داعش) في لبنان وخارجه، وعندما تنتهي الحرب ضد الإرهاب سيعود مقاتلوه إلى البلاد»، فماذا سيكون موقف الحريري عندما يقول إنه لن يقبل بأقل من تغيير الوضع الراهن، ما يعني التمسك بأن يتوقف «حزب الله» عن التدخل خارجياً، وخصوصاً في ظل الصراع الإقليمي الذي يفيض بالتراشق بالاتهامات الإرهابية وبالحديث عن القتال ضد الإرهاب؟
لعل من الضروري أن يتذكّر الذين يعكفون على إنشائيات «النأي بالنفس»، أن تاريخ هذا الشعار الذي يعني الاستقالة من الموقف الوطني نتيجة الاختلاف في المواقف السياسية، بدأ مع إسقاط حكومة سعد الحريري بعدما استقال منها وزراء «8 آذار» عندما كان في واشنطن، حيث أعلن الرئيس نجيب ميقاتي يومها في 13 يونيو (حزيران) من عام 2011 تشكيل حكومة جديدة ستُدخل هذا الشعار العجيب إلى الحياة السياسية.
لكن «النأي بالنفس» كان يومها نتيجة الاختلاف حيال الأزمة السورية، التي قسمت اللبنانيين بين معارضين لنظام الأسد ومؤيدين للمعارضة، وعلى خلفية الانقسام الجذري بين 8 و14 آذار؛ لكن مع تدخل «حزب الله» في سوريا دعماً للنظام وتمشياً مع التدخلات الإيرانية، وبعد الانقسام الإقليمي وتحوّل سوريا ميداناً لصراعات دولية، صار «النأي بالنفس» ضرورة وطنية ملحة، في الوقت الذي كان الحزب يقول: «سنكون حيثما يجب أن نكون»، أي أنه يقاتل مع الإيرانيين في الدول الخليجية والعربية!
لست أدري كيف يمكن لصياغة إنشائية حول شعار «النأي بالنفس» وما شابه، أن تحلّ جوهر المشكلة التي أشار إليها الحريري بقوله: «إن إيران هي سبب تدخل (حزب الله) في أنحاء المنطقة، وإن على الحزب أن يتوقف عن التدخل خارجياً وأن يقبل سياسة الحياد»، عندما يعلن الحزب صراحة انخراطه في تيار المقاومة، وعندما يستمر قصف لبنان ودول المنطقة بالتصريحات الإيرانية المعادية والمرفوضة؟
في السياق تعمدت إيران مثلاً أن يكون صوتها أول ما يصل إلى مشاورات عون بعد استقالة الحريري، وتجدد الحديث عن سحب «حزب الله» من سوريا واليمن، حيث أعلن محمد علي جعفري بعد ساعات: «إن سلاح (حزب الله) خط أحمر غير قابل للتفاوض»، هذا بعدما كان حسن روحاني قد أعلن أنه لا يمكن للبنان وسوريا والعراق واليمن ودول شمال أفريقيا، أخذ قرار أو القيام بأي خطوة مصيرية من دون إيران، ولم يلقَ كل هذا الرد المناسب!
المفارقة أن «النأي بالنفس» كان في البداية عن الصراع بين السوريين؛ لكنه صار نأياً مطلوباً عن الصراع المفتوح على مداه بين إيران الفارسية، التي لا تتردد في القول إنها باتت تدير أربع عواصم عربية، هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء، وبين الدول الخليجية والعربية، ولبنان الذي يقول في دستوره إنه عربي الانتماء، يتمزق كي ينأى بنفسه عن الانحياز إلى إيران الفارسية المنخرطة في تدخلات وحروب واسعة على مستوى المنطقة العربية كلها… غريب!
والسؤال: متى تنأى إيران بنفسها عن لبنان؟ وآخر إبداعاتها كما كشفت صحيفة «لو فيغارو» قبل يومين أن مجموعة قراصنة «أوريليغ» إلكترونيين تديرهم طهران، هاجمت الخوادم الافتراضية للبريد الإلكتروني التابعة لمكتب رئيسي الجمهورية والحكومة في لبنان، وكذلك خوادم وزارتي العدل والخارجية والجيش اللبناني وعدد من المصارف، وحتى كتابة هذه السطور لم يصدر أي تعليق، ربما لانشغالنا بالبحث عن صيغة إنشائية مجازية لشعار «النأي بالنفس»… حرام!