يوسف الديني

«الشمس لا تُغطى بغربال» إن كان هذا واضحاً وجلياً في عدالة القضية الفلسطينية، فإنه كذلك فيما يخص موقف السعودية منذ تأسيسها بدعم القضية الفلسطينية سياسياً ومالياً وشعبياً، منذ مؤتمر لندن 1953 وصولاً إلى موقف الملك سلمان تجاه منع المصلين من الصلاة في المسجد الأقصى والمملكة تدعم فلسطين والفلسطينيين، ليس بدوافع مصلحية أو كاستثمار شعاراتي، كما تفعل كثير من الدول التي تمعن في ترسيخ مبدأ البراغماتية السياسي عبر تناقضات صارخة من إقامة علاقات مباشرة مع إسرائيل جهراً وسراً،

بينما تعقِّد مسار أي محاولات للخروج بصيغة سياسية عادلة تعيد للفلسطينيين بعض حقهم المسلوب، كما هو الحال مع خريطة الطريق ومبادرة السلام العربية التي اقترحها الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، ولي العهد آنذاك، وتبنتها الدول العربية مشروعاً عربياً موحداً في قمة بيروت في مارس (آذار) 2002م، والتي توفر الأمن والاستقرار لجميع شعوب المنطقة وتؤمِّن حلاً دائماً وعادلاً وشاملاً للنزاع العربي الإسرائيلي، وقبل ذلك مشروع الملك فهد للسلام الذي أعلنه في مؤتمر القمة العربي الذي عُقد في مدينة فاس المغربية عام 1982م، ووافقت عليه الدول العربية وأصبح أساساً للمشروع العربي للسلام، كما كانت هذه البادرة أساساً لمؤتمر السلام في مدريد عام 1991م، وكان من أهم بنود المشروعين بشكل صريح، ومبادرة واضحة دون مواربة «القبول بقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة في الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس».

وبإزاء السياسات لم تقدّم دولة في المنطقة للقضية ما قدّمته السعودية، لا منةً بل إيماناً بدورها كمركز للعالم الإسلامي وفي طليعة الدول المهمومة بالقضايا العربية، حيث التزمت في قمة بغداد عام 1978م، بتقديم دعم مالي سنوي للفلسطينيين قدره 1,97,300,000 (مليار وسبعة وتسعون مليوناً وثلاثمائة ألف دولار)، وتخصيص دعم شهري للانتفاضة الفلسطينية مقداره 6 ملايين دولار، في قمة الجزائر الطارئة (1987م)، كما قدمت المملكة في الانتفاضة الأولى (1987م) تبرعاً نقدياً لصندوق الانتفاضة الفلسطيني بمبلغ 1,433,000 (مليون وأربعمائة وثلاثة وثلاثين ألف دولار)، عدا ملايين الدولارات للمنظمات الدولية الإغاثية كالصليب الأحمر، إضافة إلى تمويل برامج تنمية عبر الصندوق السعودي للتنمية بلغ حجمه 300 مليون دولار، يهتم بقطاعات الصحة والتعليم والإسكان، والتزمت بتحويل كامل ما أقرته من دعم في قمة شرم الشيخ (مارس 2003م) بمائة وأربعة وثمانين مليون دولار، وذات الأمر في قمة تونس في مايو (أيار) 2004م، بستة وأربعين مليون دولار، وفي مؤتمر القمة العربي في القاهرة (2000م) باقتراح إنشاء صندوقين باسم صندوق «الأقصى» وصندوق «انتفاضة القدس»، برأسمال قدره مليار دولار، وتبرعت بمبلغ 200 مليون دولار لصندوق «الأقصى» الذي يبلغ رأسماله 800 مليون دولار، وتبرعت بمبلغ 50 مليون دولار لصندوق «انتفاضة القدس» الذي يبلغ رأسماله 200 مليون دولار. ولم يكن هذا لفصيل سياسي بعينه، كما تفعل الدول التي تحاول التكسب السياسي والارتزاق الآيديولوجي في دعمها لقضية فلسطين عبر الاستثمار في فصائل ومجموعات وأحزاب بعينها، لتدعيم موقفها أكثر من التفكير في الفلسطينيين ككتلة واحدة.
هذه الأرقام لا تأتي على ذكرها السعودية في خطابها الإعلامي، وليتها تفعل، لا على سبيل المنّة بل لإنعاش ذاكرة القطط التي أُصيب بها المهووسون بالتنقص من مواقفها في دعم القضية الفلسطينية، لأنها لا تلبي متلازمة الشعارات لديهم وهوسهم، دولاً وأحزاباً وتياراتٍ سياسية، باستغلال العاطفة الجياشة لدى الشارع العربي والإسلامي في الانتفاع بحجم القدس ومكانتها، لكن بطريقة تزيد من مسار التعقيد السياسي، وتسهِّل حتى على الدول الغربية والحرة في العالم التي استنكرت ما حدث مؤخراً، القلق بشأن نمو خطابات التطرف والإرهاب بين صفوف الشبان الذين يسهل استغلالهم في هكذا مناخات، كما تزيد أيضاً من صلف وغطرسة إسرائيل التي تنتفع كذلك بخطابات الشعاراتيين لتعزيز القلق على أمنها وتقوم بتسويق ذلك للإدارات الأميركية المتعاقبة، التي سعت في كل فتراتها التاريخية إلى القيام بخطوة كهذه، إلا أن لحظة ترمب حانت بسبب تراجع منسوب الاهتمام بالحالة الفلسطينية، التي ضاعت في زحام الانكسارات العربية منذ لحظة الربيع العربي وصعود موجات التطرف والإرهاب، وهي رضات سياسية بالدرجة الأولى أسهم معسكر الممانعة (الشعارات) في تعزيزها، ويسهم اليوم في استهداف ما تبقى من دول مستقرة ليكمل مشروعه الأثير لدى نظام طهران في ذرع العالم العربي جيئةً وذهاباً بأذرعه الميليشياوية من العراق إلى لبنان فاليمن.
الأكيد أن إدارة ترمب عكست جهلاً كبيراً بتعقيدات المسألة الفلسطينية الإسرائيلية، وأن ردة الفعل القوية في العالم الإسلامي والعربي بالكاد بدأت وننتظر تحولات ومضاعفات دراماتيكية في الفترة المقبلة، إنْ على المستوى الأمني أو السياسي بسبب حالة الاستقطاب بين معسكر الشعارات والانتفاع بالقضية الفلسطينية وبين دول الاعتدال التي تعتبر الحفاظ على الهوية الفلسطينية بكل حمولاتها الدينية قضيةً غير قابلة للمساومة، لكنها أيضاً ستكون مطالَبة بتحمل عبء إسقاطات معسكر الشعارات بإشعال الشارع، وتفعيل مداميك الشعبوية السياسية، وإثارة الرأي العام، وتبديد أي مشاريع سلام واستقرار للمنطقة، وصولاً إلى ما سيشوب علاقتها بالولايات المتحدة من منعرجات حرجة.
ما لم تدركه إدارة ترمب أن قضية القدس أسرع الملفات اشتعالاً في المنطقة متى ما تم التعامل معها بعموميات غرضها تطمين حليفتها إسرائيل فحسب دون البناء على ما تم إنجازه في العملية السياسية طوال المرحلة الماضية والمبادرات المضنية التي قدم العرب فيها تنازلات كبيرة طمعاً في سلام ينعم به الفلسطينيون جميعاً، ودون تصحيح لهذه الخطيئة غير المبررة سيكون من شبه المستحيل تبني أي مسار تفاوضي تقوده الإدارة الأميركية، وهو ما عكسه هذا القلق المتنامي في أنحاء العالم، وباختصار ما تحتاج إليه عدالة القضية الفلسطينية مماثل سواء من طرف الأميركيين أو أعدائهم، سياسات لا شعارات.