سليمان جودة 

الغضب من قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب حول القدس، ملأ أرض فلسطين، وزحف منها إلى بلاد العرب فملأها هي الأخرى، ومعها أنحاء الدول الإسلامية، ثم فاض حتى عمّ أرجاء العالم، ومع ذلك، فالواضح أن هذا كله لم يقنع الإدارة الأميركية بعد، بأنها تصرفت في الاتجاه الخطأ، وأن عليها أن تتدارك الأمر!


لقد أعلن المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية، اعتذار الرئيس محمود عباس، عن عدم استقبال مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي، الذي كان من المقرر أن يزور المنطقة آخر الشهر الحالي... ومن قبل أعلن الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر، القرار نفسه، وقال عبارة لا تُنسى... قال: «لا أجلس مع الذين يزيفون التاريخ!».
وانضم تواضروس الثاني، بابا الكنيسة المصرية، إلى الرئيس الفلسطيني، وإلى شيخ الأزهر في القرار ذاته... وهو موقف غير مسبوق في أحواله الثلاثة!
ولكن رد إدارة ترمب، عبر وزارة خارجيتها، كان مُخيباً للآمال!
فالخارجية الأميركية أعلنت بعد ساعات من قرار عباس، والطيب، وتواضروس، أن قرار الرئيس بنقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، قرار لا رجعة فيه، وأن تنفيذ قرار النقل والاعتراف سيأخذ سبيله إلى التنفيذ، مطلع العام الجديد، بالتوازي مع السير في المفاوضات وعملية السلام!
والمعنى الذي تريد إدارة ترمب أن تقوله من خلال قرارها، ومن خلال قولها إنه لا رجعة عنه، أن القرار جزء من تصورها للتسوية النهائية التي تراها للقضية!
هي ترى ذلك، وهذا حقها... غير أن عليها أن تلتفت إلى أن ما تراه ليس مقبولاً من الطرف الآخر، الذي هو صاحب القضية في الأساس، ولن يمر بالتالي، وليس أمامها كإدارة ترى ما تراه، سوى أن تراجع نفسها فيما تطرحه، وأن تعيد النظر فيه، لأنه ليس هدفاً في حد ذاته، ولكنه وسيلة إلى تحقيق سلام طال انتظاره من أصحاب أرض جرى احتلالها، ولا يزال يجري احتلالها!
وحقيقة الأمر أن لغة الإدانة، والشجب، والرفض الشفهي، والغضب المجاني، لن تُجدي نفعاً مع إدارة ترمب؛ لأنها - شأن كل إدارة سابقة عليها - تنحاز إلى تل أبيب مُقدماً، حيث مصالحها، ولا تلتفت كثيراً إلى رفض عربي مُعلن، ما دام رفضاً شفهياً، ولا إلى شجب، ولا إلى إدانة، رغم أن لها مصالحها المؤكدة في أرض العرب!
وأتخيل أن قراراً من نوع قرار اعتذار عباس، والطيب، وتواضروس، عن عدم استقبال نائب ترمب، هو الشيء الوحيد ربما الذي أوجع الإدارة في واشنطن، من بين كل ردود الفعل الغاضبة التي توالت بعد قرار نقل السفارة إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ولا تزال تتوالى!
فلأول مرة منذ سنوات طويلة يجد مسؤول أميركي على هذا المستوى، أنه غير مُرحب به في زيارة إلى المنطقة كان من المقرر أن تبدأ في العشرين من ديسمبر (كانون الأول) الحالي!... فإذا جاء عدم الترحيب على مستوى الرئاسة الفلسطينية نفسها، وعلى مستوى مشيخة الأزهر، ومعهما مستوى الكنيسة القبطية، كانت الخطوة على مستوياتها الثلاثة ذات معنى لا يجوز أن يمر على الذين يعنيهم في الولايات المتحدة أن يكونوا أصدقاء لأبناء هذه المنطقة من العالم، وأن تدوم الصداقة!
ولا تزال الطريقة التي تعامل بها الأردن مع إسرائيل، بعد حادث السفارة الإسرائيلية في عمان، هي الطريقة الأنسب في التعامل الهادف من جانبنا، سواء كان في ملف القدس أو غير القدس!
ففي الثالث والعشرين من يوليو (تموز) من هذا العام، أطلق حارس السفارة النار على مواطنين أردنيين اثنين، فأرداهما قتيلين، وحين جاء الشرطة الأردنية وحاصرت مبنى السفارة الذي تحصن به الحارس القاتل، نبهت تل أبيب، عمان، إلى أن الموجودين داخل سفارة إسرائيل هناك يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية، التي تحمي أي دبلوماسي في العالم يمثل بلده لدى أي بلد آخر!
ولم تمانع السلطات في الأردن، في الالتزام بما تقضي به أعراف الدبلوماسية عالمياً، فسمحت للحارس بمغادرة أراضيها، غير أنها أغلقت السفارة، وأبلغت الجانب الإسرائيلي أن سفارته لن يعاد فتحها، إلا إذا أحيل الحارس إلى محاكمة تعيد حق القتيلين إليهما!
وتمسكت الحكومة الأردنية بمطلبها، وبحق اثنين من مواطنيها، تمسكاً مطلقاً، وأعلنت أن ذلك ليس محلاً لفصال، ولا لمساومة، ولا لكلام!... وحين حاولت تل أبيب الضغط على العاصمة الأردنية، وهددت بعدم استكمال خطوات مشروع البحر الميت، الذي من المفترض أن تتم بالمشاركة بينها، وبين عمان، جاءها الرد واضحاً بأن الأردن سيمضي في المشروع إلى آخره، بإسرائيل، أو بغير إسرائيل!
وفهمت حكومة نتنياهو أنها أمام حكومة أردنية جادة، وأن هذه الحكومة تعني ما تقول في موضوع السفارة، وأن حق اثنين من مواطنيها ليس موضع نقاش!
وعادت الحكومة الإسرائيلية تهدد بالماء، وبقدرتها على منعه عن الجريان إلى الأراضي الأردنية، فوجدت العزيمة نفسها لدى الجانب الأردني... بل وأشد!
فماذا فعلت؟!... لم تجد مفراً من الإعلان عن أنها قررت دفع التعويض المناسب لأسرة كل مواطن من الاثنين، وتغيير السفيرة التي كانت تعمل في السفارة وقت الحادث... وفوق هذا، فإنها قررت تقديم اعتذار للأردن عما ارتكبه حارس سفارتها في حق الضحيتين... أما الحارس نفسه، فقد لجأت فيما يخص أمر محاكمته إلى ما يلجأ إليه المحامي الماكر في مثل هذه الحالات، فأعلنت أنه كان في حالة دفاع عن النفس!
وبصرف النظر عن محاكمته التي يمكن أن تتحقق بمزيد من الضغط، ومزيد من الصلابة، فإن الأردن حصل على أغلب ما أراد، ولم يفرط في حق اثنين من رعاياه، ولم تجد إسرائيل مفراً من الاستجابة لما طلب، لأنها وجدته متمسكاً بما يقوله، ولأنها اكتشفت أن في يديه أوراقاً، وأنه يجيد اللعب بها!
شيء مما قام به الأردن في قضية السفارة، مطلوب منا كعرب، في موضوع القدس... فما كان يملكه من أوراق في يده، وقت الحادث وبعده، وصولاً إلى يوم تراجع الحكومة الإسرائيلية وقبولها بأغلب ما يطلبه، يملك العرب مثلها، وأكثر منها، ولكن العبرة هي في طريقة توظيفها، وفي كيفية اللعب بها!